منذ السطور الأولى لروايته «الديوان الإسبرطى» الحائزة على جائزة البوكر العربية 2020 ، استطاع الكاتب الجزائرى عبدالوهاب عيساوى، أن يضعنا وجها لوجه أمام بشاعة الاحتلال الفرنسى للجزائر ،حين أخبرنا كيف كان الجنود الفرنسيون ينبشون قبور الجزائريين ليحصلوا على عظام الجماجم المستخدمة لتبييض السكر ، فاستباحوا حرمات الموتى كما فعلوا بالأحياء ..جريمة تذكرنا بما فعله الاحتلال بجماجم شهداء الثورة الجزائرية التى وضعت فى علب كارتونية بالمتحف الطبيعى فى باريس.
كما أنه من الوهلة الأولى وضعنا أمام خطيئة تطويع السياسة من أجل الدين حين يعرض الضابط الفرنسى «كافيار» على رفيقه الصحفى المرافق للحملة «ديبون» أن يأخذ شيئا من عظام الجزائريين ليصنع منها صليبا فى عنقه.. إنها آثام البشر والسياسة التى تحمل الدين ما ليس فيه وهو ما يظهره جليا على لسان «كافيار»: حتى البابا نفسه لم يعد يؤمن بالمسيح الذى تؤمن به، من أجل سلطة المال تحولت الأديان إلى أقنعة».
الرواية تدور زمنيا خلال العام الثالث للاحتلال الفرنسى للجزائر، عام اختزل فيه المؤلف 132 سنة من سنوات الاحتلال ، فالصورة لم تختلف منذ البداية وحتى النهاية.وعلى لسان شخوص روايته استعاد تاريخ الجزائر ذكريات الاحتلال العثمانى الذى جثم على صدر الجزائر ثلاثة قرون .
الرواية لم تقدم لنا وجهة نظر واحدة، بل عرضت لنا هذا التاريخ على لسان خمسة شخوص يرى كل منها الأمور حسب وجهة نظره وتجربته، لتبدو الرواية وكأنها صراع أفكار بين الجزائريين والفرنسيين. الشخصية الأولى الجندى «كافيار» مجسدا للشخصية الغربية الإمبريالية التى تعتنق فكرة رسالة الرجل الأبيض الحضارية للشعوب المتخلفة. بينما يعرض لنا المؤلف رؤية مغايرة على لسان «ديبون» الصحفى الذى رافق الحملة الفرنسية لاحتلال الجزائر.
«ديبون» كان يمثل ضمير فرنسا الحى الذى يذكرنا أن البلد الذى خرجت منه أفكار الثورة الفرنسية من الإخاء والعدل والمساواة هو البلد الذى أصدر فيه 121 مثقفا فرنسيا عام 1960 بيانا شهيرا ضد الاحتلال كان من بينهم جان بول سارتر وكلود سيمون وسيمون دى بوفوار. لذلك أقول إن المؤلف قدم نظرة تاريخية موضوعية فكما أنصف أصحاب الضمائر، قدم لنا صورة لبشاعات الاحتلال الفرنسى الذى هدم المساجد وحولها إلى ساحات بعد أن أحرق ما فيها من مراجع وكتب.
على الجانب الآخر يعرض لنا المؤلف وجهة نظر أولاد البلد من خلال صديقين اتفقا على حب الجزائر واختلفا فى موقفهما من طريقة حبها، فالأول «ابن ميار» عضو المجلس البلدى الذى كان يرى أن بنى عثمان كانوا يحافظون على الأمن فلا قطاع طرق ولا لصوص فى شوارع العاصمة وأما الفرنسيون فظن ان الحوار معهم قد يجدى حتى انه كتب عدة شكاوى وطار بها لباريس حتى يقوم بعرضها على الملك ليعود ويكتشف أن ما فعله لا جدوى منه حين يصدر قرار بنفيه. فى حين كان صديقه «حمة السلاوى» لا يرى اختلافا بين بنى عثمان والفرنسيين فكلاهما محتل ولا سبيل للتخلص من هذا أو ذاك إلا بالمقاومة.. وهو ما انتصرت له الرواية بعد أن جاءت لجنة تقصى الحقائق ليكون على رأس من استمعت إليهم «ميمون» اليهودى الذى أكل على كل الموائد وعينه الفرنسيون رئيسا للمجلس المحلى .الشخصية الخامسة فى الرواية «دوجة»التى يمكننا أن نرى فيها تجسيدا لكل المهمشين الحائرين بين موقف «السلاوى» و«ابن ميار» وإن ظلت قلوبهم معلقة بـ«السلاوى» رمز المقاومة .
رابط دائم: