رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عز الظهر

منى الشيمى;

«أنا ابن عبدالغنى الموظف بالسجل المدنى، وفتحية محمود مدرسة الابتدائى»..

هذا ما قاله الولد بصوت عالٍ، بمجرد أن وقف على طرف سطح المدرسة الإعدادية فى ساحة السوق! كانت الساعة الثانية والنصف ظهرا، عندما شقّت صرخته سكون الظهيرة. الرجال الذين كانوا عائدين للتو من المصالح، ولم يستبدلوا ملابسهم العرقة بعد، خرجوا، ودلقتْ النسوة بجلابيبهن «البيكا» المنقوشة أجسامهن من الشبابيك المطلة على الساحة، حتى أصحاب المحلات الذين أنزلوا الأبواب الصاج قريبا من الأرض، ليخطفوا قيلولتهم قبل استئناف العمل، أعادوا فتحها؛ ليستطلعوا ما يحدث. ساد صمت، فاقترب الولد أكثر من الحافة الخطرة وكرر كلامه بصوت عال!

«اسمعوا يا أهل النجع، أنا أبويا بخيل...»

لم تضل أى كلمة قالها الطريق إلى آذان الجميع، وظلوا على هذا الحال وهو يستكمل قائلا: «إنه يأخذ عشرين جنيها كاملة من كل شاب يؤهله السن للحصول على بطاقة شخصية، أو ممن أضاع بطاقته وأراد استخراج غيرها. لا يقول لأحد: «هات» بل يستنتج الشخص المتعامل معه بنفسه، بعد أن يقف أمام نافذة مكتبه- المُعّدة خصّيصا ليتعامل من خلالها مع الجمهور- ويلاحظ أنه يتكاسل عن إنهاء الإجراءات، متعللا مرة بأن ختم نسر جهة العمل تحت البيانات باهت ومشكوك فى صحته، أو أن الأوراق ناقصة، يختلق أى حجة والسلام. لم يفلت أحد من دفع العشرين جنيها! ومع كل هذا المال المتدفق إلى جيبه، لا يصرف أبدا على شراء ما يحتاجه البيت، ولا يعطى ابنه مصروفا، فأين تذهب الفلوس؟

حجب سيد الخياط الشمس بكفه، كى يرى الولد جيدا، وقال بصوت لم يسمعه إلا الواقفون جواره:

«انزل يا ابنى.. ميصحش تفضح أبوك»

رد رفاعى القهوجى بصوت خفيض:

«أبوه هيعدى وهو مروّح ويتفرج»

رد الولد: «أنا ناوى أرمى نفسى من هنا».

وأشار بيده إلى الحافة.

توقف رجال آخرون كانوا عابرين بالصدفة، استفهم أحدهم من سيد الخياط، لخص له بكلمات قليلة ما قاله الولد قبل ثوان، فأخرج الرجل هاتفه بسرعة وثبت الكاميرا على مكان الولد. همس رجل شهد الموقف من أوله قائلا:

«إن ربَكَ لبالمِرصاد»

أما النسوة ففزعن، سألت واحدة جارتها فى الشباك المجاور:

«إزاى الواد طلع فوق السطوح يا أختى؟»

لكنها لم تتلق إجابة شافية.

«أمى صايعة»

أعاد الرجال الواقفون رفع رؤوسهم باتجاهه، وازداد عدد الكاميرات الموجهة إليه، والنسوة كففن عن تبادل الحديث، وأنصتن..

«بالشتيمة دى يناديها أبويا على طول»

صمت ليرى وقع الكلمة على وجوه الجميع. وجدهم يتلقفون كلامه فأكمل: «منذ أن رجع على غفلة مرة بعد ساعتين من خروجه للسجل المدنى، وضع المفتاح فى الباب لكنه لم يفتح، فتأكد أنها قفلت بالترباس من جُوةّ. خبط بالراحة فى الأول، ولما لم تفتح، ارتفع صوته مهددا بفضحها من على البسطة»

لم ينطق أحد، حتى الأنفاس ظلت لا تدخل أو تخرج من الصدور!

«بعد شويه فتحت، فتش تحت السرير وجنب دولاب المطبخ، ووراء باب الحمام، وجد زميلها مدرس الألعاب، مقرفص فى بلكونة أوضة النوم»

سخرت امرأة من شباكها:

«جاتها ستين خيبة، غطت راسها عشان تكشف ضهرها»

سألت أخرى بلهفة فى الوقت نفسه:

«أبوك عمل ايه؟ كمل يا حبيبى الله يسترك!»

لكن الولد لم يرد.

ازدحمت الساحة، بعد أن توقف فيها كل من كان خارجا من السوق، ركن بعضهم أكياس الخضراوات بجانب سور المدرسة، وأٌخذ الآخرون بما يسمعونه، فظلوا يحملونها! ولما تململ أحدهم أخرج له رفاعى كرسيًا من بطن القهوة، فطلب آخر كرسيًا لأن قدميه توجعانه!

كاد رفاعى يخرج بالكرسى الثانى، لكن المعلم عطا الله صاحب القهوة قال:

«الكرسى بجنيهين، الناس تتفرج وترتاح ببلاش؟»

خرج رفاعى القهوجى ليخبر الرجل بشرط المعلم. كان الولد لا يزال واقفا فوق الحافة، والشمس صارت خلفه، وظله الرفيع استطال كالسهم على رؤوس الواقفين.

تعالى صوت:

«كل الناس عارفة إن عبدالغنى مرتشى!، كل واحد يشوف مصلحته أحسن»

لكن أحدا لم يترك مكانه. عاد الولد للكلام، فساد الصمت:

«أمسك أبويا أستاذ الألعاب من زمّارة رقبته، لكن أمى زقت أبويا فى صدره، فوقع فى الأرض على قفاه، وانتهز الأستاذ الفرصة، عدل قميصه، وخرج من الباب، لكنه عاد لصعود السلالم، لأنه نسى شنطة الترنج على السفرة. كانت أمى بتقول لأبويا:

«لو فضحتنى هبلغ عنك»

ومن وقتها، إذا لم تجهز لنا الغداء أو لم تغسل «الهدوم» يقول لها: يا صايعة، وإذا لم يحضر طلبات البيت أو يدفع فاتورة النور أو الميه، تقول له: «يا مرتشى!».

عندما أنهى الولد كلامه كان معظم المتجمعين يجلسون على كراسى القهوة، التى رَصّها رفاعى فى منتصف الساحة، المكان الذى يُشاهد منه الولد جيدا فى مكانه على حافة السطوح! بعد أن حَصّلَ جنيهين من كل واحد. وأجاز له المعلم عطا الله تقليل المبلغ، للكراسى التى رصّها على الحواف بعيدا عن الرؤية الكاملة.

الصمت ساد فى انتظار عودة الولد للكلام، لم يُسمع سوى صوت الطبقين النحاسيين، اللذين يصلصل بهما بائع العرقسوس القادم من بعيد! تعالى صوت أحد الرجال:

«حد يتصل بالنجدة من تليفون القهوة!»

توقف رفاعى عن رص مزيد من الكراسى، وهم بالتوجه ناحية التليفون على البنك الخشبى جنب الباب، لكن المعلم عطا الله منعه، وقال هامسا: «خلينا نسترزق»

رفاعى غافله ودخل، دق الرقم مرات، لكنه كان مشغولا! عاد لمكانه بالخارج، فى الوقت الذى بدأ فيه الولد وصلة كلام جديدة:

«لو حصل وكنت عيان واعتذرت عن لعب الماتش، أستاذ الألعاب يقول لي: يا ابن الصايعة، وفى السكة وانا راجع من المدرسة، الناس ينادوني: «يا ابن المرتشى»، أبويا قال: «رشوة إيه؟ دى إكرامية، ثلث للضابط وثلت لرئيس المكتب.

وأمى قالت له وهى بتشاور على كل بيوت الشارع من الشباك: «كل النسوان دى صايعة»

أنهى الولد كلامه واقترب أكثر من الحافة. تعالى صوت أحد الجالسين فى المنتصف:

«لا.. لا كده عيب، لا يصح رمى المحصنات»

سمعه سيد الخياط فعقب: «يا سابل الستر استر»

ظهر عبدالغنى من شارع جانبى، بقميصه الكاروهات الذى لا يغيره إلا فى المناسبات. وعندما وصل خلف صف الرجال الواقفين سأل رجلا عجوزا عما يحدث. كان الرجل من قرية مجاورة، جاء مثل كثيرين إلى النجع للتسوق، ولأنه استخرج بطاقة منذ خمسة وخمسين عاما مضت، لم يعرف أن الواقف أمامه عبدالغنى بشحمه ولحمه، فقال له:

«ابن عبدالغنى موظف السجل المدنى فاضح أبوه فضيحة المطّاهر»

لم يعقب عبدالغنى بكلمة، شق الصفوف بصعوبة حتى وصل إلى مكان يرى فيه ابنه. لحظتها رآه رفاعى فقال بصوت عال موجها كلامه للولد:

«أهو أبوك وصل، وهو يتصرف معاك»

سرت همهمة بين الناس! وحملقت النسوة فى عبدالغنى! وهو يزعق فى ابنه بصوت كطلقة بندقية:

«انزل يا ابن الكلب»

رد الولد وهو يشوح بيديه:

«مش قبل ما تدفع لى اشتراك حمام السباحة»

وقف البعض محاولا طمأنة عبدالغنى، قال واحد بصوت عال مغالبا قرع طبقى صاج بائع العرقسوس:»إنه سيخاف ولن يجرؤ على إلقاء نفسه». وقال آخر: «طيش شباب». لكن عبدالغنى لم يبال بأحد، سار حتى اقترب من باب المدرسة المغلق، ظل يرجُّه بعنف رجّـًا متتاليًا، لكن السلسلة الحديدية التى جمعت جزءيه والقفل المسوجر استعصيا على محاولاته، تساءل:

«الواد طلع السطوح من أى داهية»

تعالى صوت يدعو إلى الاتصال بالنجدة، لكن رفاعى صرح بمحاولاته الاتصال بهم، واختتم كلامه بأن التليفون إن لم يكن عسكرى الخدمة يشغله بمكالمة طويلة مع عشيقته، فهو حتما عطلان.

كان بعض أصحاب الكاميرات يحاولون توسيع الكادر، كى يتم احتواء الولد فوق السطح وأبيه أمام الباب فى الأسفل، لكن الأمر كان صعبا، سجل أحدهم كلام الولد: «لو دفعت لى اشتراك حمام السباحة، وحلفت يمينا أنك لن تضربنى سأنزل» وسجل البعض الآخر تعبيرات وجه عبدالغنى الذاهلة، وحركة كفيه وهما يضربان بعضهما، ثم ثبتوا الكاميرا على فمه وهو يقول:

«أدفع وأمرى لله»

فقال الولد والكاميرات تلاحقه:

«خلى الفلوس مع رفاعى ضمان»

ضج الجميع بالضحك، شجع أحد الواقفين عبدالغنى على إخراج الورقات النقدية. تأكد الولد أن أباه نفذ ما طلبه فقال:

«احلف بقى»

«طلاق تلاته ما أنا ضاربك»

تمتم سيد الخياط من دون صوت، ثم دخل محله وأعاد إنزال الباب.

حكى له رفاعى بعد المغرب، وهو جالس على المقهى، كيف تعلق الولد بماسورتى الحمامات، وقبل أن تشهق القلوب هبط الأدوار الثلاثة حتى وصل إلى سور المدرسة، ومنه قفز إلى الأرض! وقبل أن يأخذا طريقهما عائدين إلى البيت، سأله عبدالغنى: «أنت فضحتني؟» التفت إليه الولد مبرئا نفسه وقال: «والله العظيم ما قلت حاجة» ضمه إليه أكثر، فى الوقت الذى بدأ فيه الجمع فى الانفضاض.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق