أنا رجل قاسيت فى الحياة متاعب لا حصر لها، والآن تحاصرنى الأمراض, وقد زهدت روحى فى الدنيا وقاربت على تلبية نداء ربى عز وجل بعد رحلة كفاح مريرة، ربيت خلالها أجيالا من الرجال صاروا ملء السمع والبصر, حيث كنت أعمل مدرسا فى مدرسة عتيقة تخرج فيها وزراء ومسئولون، وقبل عشرات السنوات عايشت وفاة والدتى رحمها الله وملأ الحزن قلبى وقلوب أشقائى على فراقها, وبعد أسابيع من رحيلها وعند تقسيمنا تركتها بشرع الله أحسسنا بالضيق والضجر عندما علمنا أنها تبرعت بنصف ما تملك لإحدى الجهات الخيرية, وحدثنا أنفسنا بأننا كنا الأولى بمالها, وتكرر الأمر بنفس الطريقة والسيناريو بعد وفاة زوجتى التى كتبت ربع تركتها لدار أيتام, حيث تبرم أبنائى من صنيعها دون أن يبدو ذلك، واليوم وبعد مرور تلك السنوات التمست العذر لأمى رحمها الله, فلقد ربيت أبنائى بما يرضى الله عز وجل، وتفانيت فى تربيتهم وسهرت الليالى فى الكد والعمل حتى يعيشوا فى مستوى راق, وقمت بتزويجهم جميعا والتحقوا بوظائف مرموقة, ويوما بعد يوم تباعدت المسافات بينى وبينهم, ليس تقصيرا منهم أو عقوقا بي, ولكن وظائفهم تتطلب ساعات عمل كثيرة وسفرا طويلا فى بعض الأحيان, بالإضافة إلى انشغالهم بزوجاتهم وأبنائهم وأماكن سكنهم البعيدة عني, وكلها عوامل جعلتنا لا نلتقى إلا فى المناسبات ولكنهم يطمئنون علىّ يوميا, والحقيقة أنهم ألحوا علىّ كثيرا فى أن أعيش مع أحدهم ورحبوا بى جدا, ولكن لطبيعتى فى احترام الخصوصيات وحتى لا أكون ثقيلا على أحد رفضت كل العروض، والآن بعد أن تزايدت أمراضى وتم احتجازى فى المستشفى لإصابتى بنوبات إغماء متكررة ودخولى فى غيبوبات عديدة, وجدتنى أفكر فيما هو آت, وأتذكر دائما حديث رسول الله: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث, صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له, وأنا واثق من بر أبنائى بى ودعائهم لى بعد رحيلي, ولله الحمد قدمت من العلم الكثير الذى ينتفع به, أما الصدقة الجارية فليست موجودة فى حياتي, وقد اهتديت إلى أن أهب ثلث ثروتى بعد وفاتى إلى إحدى الجهات الخيرية كصدقة جارية يستفيد منها الفقراء والمرضي, ولكننى أخشى غضب أبنائى علىّ, وأتخيلهم وهم يقولون بعد وفاتى أنهم كانوا الأولى بهذه الأموال كما قلت أنا عن والدتى من قبل, فهل أخبرهم بما نويته، أم أتركهم يفاجأون بما سأفعله، وهل هذا صحيح أم لا؟
> ولكاتب هذه الرسالة أقول:
من حقك أن تفعل بأموالك ما تشاء, ومن حق أولادك عليك أن تترك لهم ما يعينهم على شدائد الحياة مادام ذلك فى استطاعتك, لكنى ألمس من ثنايا رسالتك أن أولادك فى مراكز مرموقة ويعيشون حياة رغدة مستقرة مع زوجاتهم وأبنائهم, ولن يزيدهم ما سوف يرثونه عنك شيئا, ولذلك فإن الأولى بك أن تستثمر جزءا من أموالك، وليكن الثلث كما تقول فى الصدقة الجارية التى ستكون لك حلقة الوصل مع الله بعد رحيلك، أما ما تخشاه من أن يصيب الضيق والضجر أولادك إذا فعلت ذلك مثلما حدث لك حينما صنعت والدتك ما تفكر فيه الآن, فهو خوف لا مبرر له، إذ إنك التمست لها العذر عندما بلغت السن التى يعيد الإنسان فيها التفكير فى أمور كثيرة فى حياته، وكل ما أطلبه منك هو أن يكون صنيعك فى النور, وأن تجمع أولادك وتخبرهم بما نويته, وتبث فيهم روح التضحية والبذل والعطاء, وإيثار الآخرين، فهكذا يكون الإنسان المعطاء الذى يبتغى مرضاة الله سبحانه وتعالي, وإذا كانوا بارين بك, ويسعون لإرضائك فلا أظنهم سيعترضون على هذه الصدقة التى سيكون لهم نصيب فيها بدعوات المحتاجين, وابتهالات المرضى والمعوزين.
أما النهاية التى تتحدث عنها فلا أحد يعلم الغيب, فقد تتعافى من آلامك بإذن الله, ويصبح بمقدورك أن تقدم الصدقة الجارية بنفسك فى صورة جهاز طبى لمستشفى مجانى يعالج البسطاء, أو تقيم مشروعا لتشغيل اليتيمات ويخصص عائده لكفالة الأسر الفقيرة, فهذا هو أفضل استثمار لمن يريد التجارة مع الله.. إننى أحيى فيك معدنك الأصيل ونيتك الصادقة, وأسأل الله أن يزيح عنك الغمة, وأن يكتب لك الشفاء, وأساله عز وجل أن يثبّت أولادك على طريق الحق, وأن يجمعكم على كلمة سواء.. إنه على كل شىء قدير.
رابط دائم: