فى لحظاتِ الشدائدِ والمحنِ والنوازلِ والفتن تَهرع الأمةُ إلى علمائها؛ راجيةً منهم مصابيح الهداية ومسالك النجاة، ومع تفشى وباء فيروس كورونا ظهرت فهومٌ وفتاوى وأقوال ما أنزل الله بها من سلطان، تفتقر إلى المنهج العلمى السديد، كما أنها غيرُ مدركةٍ للواقعِ وتجلياته، وجاهلةٌ بفقهِ النوازلِ الذى يَستقِى أحكامَهُ من خلالِ العقل الجامع الفارق، الذى تدرب على أنواعٍ عديدةٍ من الفقهِ، كفقهِ النصِّ، وفقهِ الواقعِ، وفقهِ المقاصدِ، وفقهِ التوقعِ، وفقهِ المآلات، وفقهِ الموازنات بين المصالح والمفاسد، وفقهِ الأولوياتِ، وفقهِ الضرورةِ، بالإضافة لإدراكِهِ للقواعدِ الفقهيةِ والأصوليةِ الضابطةِ لحركةِ العقلِ الفقهيِّ فى إدارةِ النازلةِ وتنزيلِ الحكمِ الشرعيِّ على أحداثِها..
ولقد فطن الشيخ أحمد ربيع الأزهرى، من علماء الأزهر والأوقاف، إلى أهمية ذلك فقام بإعداد دراسة بعنوان «القواعدُ الفقهيةُ الضابطةُ للعقلِ الفقهيِّ فى زمنِ النوازلِ- نازلة وباء «كورونا نموذجًا»، انتهى فيها إلى 200 قاعدة فقهية بمنزلة ضابط للعقل الفقهى بل والعقل الجمعى عند النظر فى تداعيات النوازل وكيفية المواجهة والمعالجة، جاعلا من انتشار وباء «كورونا» نموذجا فى هذا الشأن، وقد قسم هذه القواعد إلى عشرِ مجموعاتٍ، كلُّ مجموعةٍ تضبط جانباً من جوانبِ التعاطى مع هذه النازلةِ، نعرض لها سريعا:
المجموعة الأولي: فقهِ الموازنةِ بين المصالحِ والمفاسدِ: وفيها ذكر العديد من القواعد التى تصنع العقل القادر على الموازنة بين المصالح والمفاسد، بل بين المصالح والمصالح، والمفاسد والمفاسد فى زمن الوباء، منها: «الشريعة إنما وُضِعَتْ لمصالحِ العباد فى العاجل والآجل معًا»، «الأحكامُ الشرعيةُ إنما شُرِعَت لجلبِ المصالحِ أو درءِ المفاسدِ»، «يُدفعُ أشدُّ المفسدتين بأخفِّهما، ويؤتى بأعظمِ المصلحتين إذا لم يُمكنا معًا»، «إذا تعارض دليلان أو علتان، فى أحدهما تحصيلُ مصلحةٍ، وفى الآخرِ دفعُ مفسدةٍ، ولم يمكن الجمع بينهما بوجه، قُدِّمَ الدافعُ للمفسدةِ على الجالبِ للمصلحةِ»، «ما حُرِّمَ لسَدِّ الذرائعِ فإنه يُباح عند الحاجةِ والمصلحةِ الراجحة»، «درءُ المفسدةِ أولى من جلبِ المصلحةِ»، «يُختارُ أهونُ الشرَّيْنِ - يُرتكبُ أخفُّ الضررين»، «إذا اجتمعت المصالحُ والمفاسدُ وتعذَّرِ الدرءُ والتحصيلُ قُدِّمَ الدرءُ إن كانت المفسدةُ أعظم، والتحصيلُ إن كانت المصلحةُ أعظم، والتخيير أو التوقف عند التساوي»، «حفظُ الأكثرِ من المصالحِ بتفويتِ الأقلِّ لازمٌ».
وبناءً على قواعد هذه المجموعة: فغلق بعض المرافق والحد من حركةِ الناس وفرضِ حظر التجوال فيه مفاسد بلا شك، لكنه يدرأ مفسدةً أشد وأكبر وهى انتشار الوباء بصورةٍ يعجز النظامُ الصحيُّ للدولةِ عن معالجتِهِ مما يُعرِّضُ النفوسَ للهلاكِ.
المجموعة الثانية: حفظُ كرامةِ الإنسان، ومن قواعدها: « تكريمُ بنى آدمَ مقصدٌ شرعيٌ أساس»، «المقصدُ العام للشريعةِ هو عمارةُ الأرضِ واستمرارُ صلاحِها بصلاحِ المستخلفين فيها»، «الآدميُّ كله محترمٌ حيًا وميتًا»، «حقُّ الآدميِّ مقدمٌ على حقِّ اللهِ تعالي»، «حقوقُ الآدميِّ مبنيةٌ على الشحِّ والتضييقِ»، «حقوق الآدميين مبنيةٌ على الاحتياطِ التامِ»..إلخ .
وانتهت هذه المجموعة إلي: أنَّ الحفاظَ على النفسِ البشرية فى نازلة الوباء هو المقصدُ الأسمى والغاية الأهم، ولا يُلتفت إلى غيرِها من المصالحِ المهدرة، كما يجبُ بذلُ أقصى درجاتِ الاحتياطِ لحفظِ النفوس، كما أنَّ تكريمَ الإنسانِ ميتًا فى نازلةِ الوباء لا يقلُّ عن تكريمِهِ حيَّا، فيجبُ أن يُغسَّلَ ويُكفن ويُصلى عليه، ويُضرب بيدٍ من حديدٍ على من يَتعرضُ لهذه الأفعالِ بالمنعِ أو التقصيرِ.
المجموعة الثالثة: حفظ النفوس، ومن قواعدها: «صونُ النفسِ واجبٌ»، «الأصلُ منعُ إتلافِ النفوسِ»، «تُصانُ النفوسُ المعصومةُ عن الهلاكِ»، «حفظُ النفوسِ مُجَمَعٌ عليه» «وجوبُ حفظِ النفوسِ مما اجتمعت عليها الأممُ»، «الخوفُ على النفسِ عُذرٌ فى تركِ الواجبِ»، «النفوسُ يُحتاطُ لها ما لا يحتاط لغيرِها»، «الآدميُّ مكرمٌ بجميعِ أجزائه فلا يُبتذل»، «الآدميُ محترمٌ بعد موتِه على ما كان عليه فى حياتِهِ»، « كلُّ ما يُباحُ للرجالِ لبسُهُ فى حالِ الحياة يُباح تكفينُه به بعدَ الوفاة، وما لا يُباح له لبسه حالَ الحياةِ لا يباح تكفينه به بعدَ الوفاة» ..إلخ. وتؤكد هذه القواعد أهميةِ النفسِ البشريةِ وأنَّ حفظَها من المقاصدِ الكليةِ للشريعةِ الإسلامية، وأنَّ أيَّ إجراءٍ هدفُهُ حماية النفسِ من الهلاك معتبرٌ شرعًا.
وينبه الشيخ أحمد ربيع الأزهرى إلى أن من المباحثِ الدقيقة فى الشريعةِ والفقهِ إعادةُ ترتيبِ المقاصدِ الشرعية، حيثُ قدَّمَ البعضُ «حفظَ النفسِ» على «حفظِ الدين» مُعللاً ذلك بأنَّ هلاكَ النفسِ يُفوت إقامتَها لشعائرِ الدين، وأنَّ حقَّ الآدميِّ مُرَجَّحٌ على حقوقِ الله تعالي؛ لأنها مبنية على الشحِّ والمضايقة، وحقوقُ الله تعالى مبنيةٌ على المسامحةِ والمساهلة، بينما يرى البعضُ أنه لا يجوز تقديمُ أيَّ مقصدٍ على مقصدِ«حفظِ الدينِ»، والخلاف معتبرٌ بلا شك.لكن بعدَ دراسةٍ عميقةٍ ـ والكلام للشيخ الأزهرى نستطيع - فى هذا الوقت الذى اشتد فيه الوباء - أن نقول: إن «حفظ النفس» مقدم على «حفظ الدين» من ناحية «الترتيب»، و«حفظ الدين» مقدم من ناحية «الرتبة» ولو فَرَّقَ مَنْ يتكلمون بينَ الترتيبِ والرُتبةِ لارتفع الخلافُ وانشغلنا جميعا بحفظِ الأرواحِ وصيانةِ الأبدانِ مِنَ الهلاكِ حتى إذا رُفع الوباء انشغلت الأبدانُ بشكرِ الديانِ بصدقِ العبودية وإقامةِ شعائرِ الدين».
المجموعة الرابعة: عمومِ البلوى والضرورة: وتؤكد إعمال قواعدِ الضرورةِ، خاصة فى النوازلِ كنازلةِ الكورونا، لما فى ذلك من تحقيقٍ للمصالح ودرءٍ للمفاسدِ وتوسعةٍ على الخلقِ ودفعٍ لعمومِ البلوى ورفعٍ للحرج وسدا للذرائع وتخفيفا على الخلق وصيانة لحفظ كليات الشريعة وتعظيما لمقاصدها.
المجموعة الخامسة: الموازنةِ بين حقِّ الفردِ وحقِّ المجتمع، وتؤكد هذه المجموعةُ الموازنةِ بينَ حقِّ الأفرادِ وحقِّ المجموعِ، وفى حالةِ تعرض المجموعِ لمفسدةٍ أو خطرِ الهلاكِ من الأوبئةِ فإنه يجبُ أن تُقدم المصلحة العامة على الخاصةِ، وأن يُحَدَّ من حَرَكةِ الأفراد من أجلِ حفظِ المجموع، وعليه فكلُ قرارٍ هدفُهُ مصلحةٌ عامةٌ يُقدم على المصلحةِ الفرديةِ للبعضِ، فمثلا الحدُّ من تنقلاتِ الأفرادِ بين المدنِ والمحافظات، وفرضُ العزلِ على مجموعةٍ من الأفرادِ كالعائدين من الخارجِ فى جائحةِ الكورونا، أو فرضُ عزلٍ لبيوتٍ بعينِها أو قريةٍ ..إلخ يُعتمدُ على هذه القواعدِ.
المجموعة السادسة: تعليقِ بعضِ الشعائر، ومن قواعدها: «إن الفروعَ والأبدالَ لا يُصارُ إليها إلا عند الضرورةِ»، «يجوزُ فى الضرورةِ ما لا يجوزُ فى غيرِها»، «إذا ضاقَ الأمرُ اتسعَ، والضررُ يُزَال»، «الخوفُ على النفسِ عذرٌ فى تركِ الواجبِ»، «لا واجبَ مع عجزٍ، ولا حَرَامَ مع ضرورةٍ»،»العُذرُ مُسْقِطٌ للجماعةِ»، «تَسْقُطُ الجماعةُ بالأعذارِ»، «حضورُ الجماعةِ يَسْقُطُ بالعذرِ»، «لا تُتركُ الجماعةُ إلا مِنْ عذرٍ عام أو خاص»، «يجوزُ تركُ الجماعةِ بالمعاذير»، «كلُّ أمرٍ مؤذٍ وعذرٍ مانعٍ، فيه رخصةٌ فى التخلفِ عن الجماعةِ»، «كلُّ عذرٍ جاز به تًركُ الجماعة، جَاز بِهِ تًركُ الجُمُعَةِ»، «كلُّ مَا عَجَزَ عنه العبدُ مِنْ واجباتِ الصلاةِ سقطَ عنه»، « كلُّ مَنْ أطاقَ عبادةً بالصفةِ التى وَجَبَتَ عليها فى الأصلِ لم يجز له تركُها إلا أن يعجزَ عنها»، «كُلُّ صلاةٍ جازَ أداؤها فى المسجدِ جاز أداؤها فى غيرِهِ»، «مَنْ كُلِّفَ بشيءٍ من الطاعاتِ فقدرَ على بعضِهِ وعجزَ عن بعضِهِ فإنه يأتى بما قدرَ عليه ويسقطُ عنه ما عَجَزَ عنه»، «الفضيلةُ المتعلقةُ بنفسِ العبادةِ أولى من المتعلقةِ بمكانِها» ..إلخ. وبناءً على قواعد هذه المجموعة: فدرءُ مفسدةِ هلاكِ النفوسِ أعظمُ من مصلحةِ إقامةِ الشعائرِ فى دورِ العبادة، لأنَّ هلاكَ النفوسِ لا يُجْبَرُ ولا يُعَوَّضُ لعدمِ البَدَل، بعكسِ الصلاةِ والجُمعِ ففيها مُتَّسَعٌ لوجودِ البَدَلِ، كما أنَّ الشرعَ يَعْتَبِرُ من الأعذارِ المبيحةِ لتركِ الجماعة وعدمِ الصلاةِ فى المسجد ما هو أخفُّ ألفَ مرةٍ من الخوفِ من انتشارِ فيروس«كورونا» كالمطرِ والوَحَل ..إلخ، فالأمرُ يحتاجُ لِفِقْهِ الفقهِ، خاصةً أن حفظَ النفسِ كحفظِ الدين، فكلاهما من الضروريات، والقولُ بأنَّ حفظَ النفسِ أمرٌ حاجى وليس ضروريًا هو جهلٌ بَيِّنٌ بكلامِ أهلِ العلمِ والتخصص فى المقاصدِ، بداية من الإمامِ الشافعى فالجوينى فالغزالى فالرازى فالآمدى فالعز بن عبد السلام فالقرافى فالطوفى فالشاطبي، ووصولا للمعاصرين كوليِّ اللهِ الدهلوى والشيخ الطاهر بن عاشور، ومن يتأملُ القواعدَ السابقةَ بعمقٍ سوفَ يستقيمُ عندَهُ الفهمُ وإدراكُ الحِكَمِ والغايات والمصالحِ والمقاصدِ مِنْ مِثْلِ هذه القراراتِ.
المجموعة السابعة: التكافلِ: وتُبرزُ فقهِ التكافلِ والتراحمِ بين المسلمين، كما تبرز دورَ الدولةِ ودورَ الأفرادِ فى التخفيفِ على الفقراءِ وذوى الحاجاتِ الذين ضيقت النازلة عليهم حياتَهم ومعاشَهم، وفيها دليلٌ على جوازِ إخراجِ الزكاةِ مبكرًا على رأيِ العديدِ من الفقهاءِ لمدة سنتين مُقدمًا.
المجموعة الثامنةُ: واجبِ وحقِّ ولاةِ الأمورِ فى زَمَنِ النازلةِ، ومن قواعدها: «وجوبُ تنصيبِ الأئمةِ والقضاةِ لرفعِ الضررِ اللاحقِ بالناسِ عند انعدامِه»، «تصرفُ الإمامِ على الرعيةِ منوطٌ بالمصلحةِ»، « لوليِّ الأمرِ صلاحيةَ إصدارِ التشريعاتِ بحسبِ المصلحةِ لاستعمالِ المُباحِ»، «ليس للإمامِ أن يأذنَ فيما لا مصلحة فيه فضلاً عما فيه مضرةٌ»، «تجبُ طاعةُ الإمامِ فى أمرِهِ ونهيهِ ما لم يخالفْ الشرعَ»، «حفظُ البعضِ أولى من تضييعِ الكلِّ»، «لا أجرةَ على أداءِ الواجبِ»..إلخ
وهذه المجموعةُ تُبين دورَ الدولةِ وولاة الأمور فى النوازلِ، من خلالِ بيانِ ما يجب لهم من حقوقٍ وما عليهم من واجبات.
المجموعة التاسعةُ: عدمِ الاحتكارِ والاستغلالِ وضرورة ضبطُ الأسواقَ فى النوازلِ، حيثُ تجيزُ لولاةِ الأمورِ اتخاذَ التدابيرِ التى تمنعُ استغلالَ الناسِ، والمغالاةَ فى الأسعارِ، واحتكارَ الأقواتِ، مِمَّا يدفعُ الضررَ عن الناسِ، ويرفعُ الحرجَ ويدفعُ المفاسدَ.
وشددت المجموعة العاشرة على الأخذِ بالأمورِ الإحترازيةِ فى زَمَنِ النازلةِ، ومن قواعدها:«حقوقُ الآدميين مبنيةٌ على الاحتياطِ التامِ»، «حفظُ الموجودِ أولى من تحصيلِ المفقود»، «إذا تعارضَ المُقْتَضِى والمانع قُدِّمَ المانعُ»، «إذا اجتمع الحلالُ والحرامُ غُلِّبَ الحرامُ»، «يُغتفر فى الدوامِ ما لا يُغتفر فى الابتداءِ»، « بحسبِ عِظَمِ المفسدةِ يكونُ الاتساعُ والتشددُ فى سَدِّ ذريعتِها»، «إذا ضاقَ الأمرُ اتسعَ، والضررُ يُزَال»، «الحاجة تُنزَّل منزلةَ الضرورةِ عامةً كانت أو خاصة»، « إذا زالَ المانعُ عادَ الممنوعُ»، «مبنى الأمانِ على التوسعِ».
واختتم الشيخ أحمد ربيع الأزهرى دراسته بالتأكيد على أنه: فى النوازل العامة لا يلتفت إلى فتاوى أحاد الناس مهما كان عنده من علم، لأن الأمر يحتاج للمجامع العلمية والمرجعيات الإفتائية؛لأن نظرتها أشمل وأدق وأكثر تحقيقا لمقاصد الشرع لتكامل الفهوم والعقول ولاستشارتها المتخصصين فى شتى الفنون..
رابط دائم: