لا أدرى لماذا تخيرت رواية « أحلم وأنا بجوارك» للصديقة المبدعة زينب عفيفى كى أقرأها أثناء مرافقتى لمحمد جبريل فى وعكته الصحية الأخيرة، كان عنوان الرواية محملًا بدلالات ما عشته آنذاك.
........................
أن تجد فى العزلة ثراء هى هبة من الله، فأنت تعيد ترتيب أولوياتك، تكتشف ذاتك، تستعيد ما تاه فى غمرة انشغالاتنا بأمور الحياة ولهاثنا لانجازها، هذه العزلة بدأت عقب وجودنا بمستشفى «دار الشفاء». منيت نفسى بأن المسألة لن تستغرق إلا أيامًا معدودة، ونعود إلى البيت، لكن العزلة الأكبر بدأت، فشملت العالم كله، امتدت الأيام،وزاد القلق مع توالى الأخبار عن اجتياح فيروس كورونا، صار العالم يدعو للعزلة والبقاء بالبيت، وصرت أنا وجبريل فى عزلة إجبارية فى غرفة 303، هل تكون القراءة هى الونس والملاذ فى هذه العزلة الداخلية النفسية والألم والإحساس بالخطر المتربص فى كل لحظة.
«أحلم وأنا بجوارك» تقدم أسرة صغيرة مكونة من أم وابنتها العانس ذات الأربعين عامًا، تعرضت لهزة كبيرة ممثلة فى فقدان الزواج/ والأب فى حادث سير، كانت العزلة هى السبيل الوحيد للابنة «مى» فى مجابهة هذه المأساة، ولكى تكون العزلة ذات مغزى وجودى ونفسى، فإنها لم تستسلم للفراغ، بل لجأت إلى الخيال، خرجت ذات الرداء الأحمر، تجولت، صادفت سنووايت، وأحيت قصص الحب العذرى، ممثلًا فى حكايات روميو وجوليت وقيس وليلى، وتعاطفت مع كليوباترا ونهايتها المأساوية، واستعادت عالمًا روحانيا، وحلمت مع خطوط وألوان وتكوينات الفنان العبقرى بيكاسو، لعلها تجد تفسيرًا جديدًا لرائعته جيرونيكا، «وحيدة فى غرفتى، أتحدث مع أبطال وهميين كل ليلة، متصنعة حياة صاخبة».
أستعيد الماضى، وأستشرف المستقبل، طالبة من الله أن يمدنى بالبصيرة والسكينة والهدوء، هل اعطتنى بطلة زينب عفيفى - وهى تبدأ خطابها السردى بمقدمة - عذرًا مقبولًا لعزلتى، بل ربما أعطت مغزى لتلك العزلة عل حد تعبير «ألبرتو ماتغوويل» إننا أمام خطاب سردى واقع بين التخييل والواقع المعيش، هذا ما جعل شخصية «مى» تتأرجح بين الكائن الورقى، والكائن الحى.
تلعب زينب عفيفى لعبتها عبر ثنائيات، تتضاعف كلما تقدمنا فى السرد، من البيت الرامز لما هو مستقر، والمنعزل بما يشكل عالمًا كابوسيًا خانقًا، إلى جانب الحكايات والروايات والأقوال والمواقف الرامزة، والأحداث اليومية التى تمثل التخيل وإخصاب العقل والوجدان.
تعد حكاية بيت الجد منطلقًا لحكايات تؤسس عليها حكايات أخرى لنتعرف على مغزى العزلة التى تعيش فيها المرأتان، وما ترمز إليه الشجرتان الوحيدتان،االياسمينةالبيضاء الوارفة، والنخلة السامقة بلا طرح، ترى أى المرأتين كانت وارفة الظلال، الأم التى أنجبت وحاصرها انحسار البصر، أم الإبنة المفتقدة للأمومة، وإن تحلم بفارس أحلام يعيد لجسدها نداوته، ويطبب ما جف من روحها. أى من المرأتين كانت أكثر خصوبة: من أضافت إلى مكتبة أبيها رفًا يمثل الروايات، أم الابنة التى جعلت من مجرد مجموعة كتب، مكتبة عامرة «صارت مع توالى الأيام تلالًا من الكتب تطوق حياتها».
هل نحن أمام مباراة بين البصر والبصيرة، بين الظاهر والباطن، الخفى والمعلن، الحب الرومانسى المحلق، والحب الذى خدشه الواقع؟ هل يكفى أن نعيش حيوات الآخرين دون أن نعيش حياتنا؟ هل أرادت زينب عفيفى أن تضع الإنسان بين خيارات صعبة، لا مكسب خالص فيها، ولا خسارة دائمة؟
الحياة ليست وردية تمامًا، أو نقية نقاًء خالصًا، رغم أن المحيط الذى تحيا فيه يبدو مثاليًا.
يبدو أن «مى» تعيش حياة هادئة، لكن الصخب الداخلى الهادر يعتمد على الأسئلة والاعتراض والضيق، واللواذ بالحكايات، والخيال، «بداخلى امرأة مجنونة بالقراءة، مفعمة بالعناد موعودة باختيار العذاب، تضع حياتها بين دفتى كتاب مستسلمة لأقدار أبطاله، مما يمنحها حرية أن تغلق الكتاب، أو تستمر فى قراءته للنهاية، بمرور الوقت صارت القراءة علاجًا لى من مشاكل كثيرة قد تعصف بى، أو تضعنى فى طريق مجهول».
حبست مى عبدالحميد «ذاتها» فى زنزانة، ومن ثم بعدت عن العالم الحقيقى. كانت الأم تمثل حوائط هذه الزنزانة، فمى بدون أن تدرى، أو لعلها تدرى، انصهرت فى بوتقة معاناة الأم، سواء أكانت معاناة وجودية، أو معاناة جسدية.لقد وقعت فى مازوشية، وتلذذت بممارستها على الذات.
عالم الأم هو الأرحب، عالم حى مكتنز بخبرة السنين: خبرة الفرح والانطلاق والحب والزواج والاحساس الطاغى بالأنوثة، إنها صامتة، لكن صمت المجرب العارف الواثق من مكسبه فى نهاية الجولة.
يطالعنا فى الكثير من الأعمال الروائية ثالوث الزوج والزوجة والعشيق، فى «أحلم بجوارك» تغيرت المعادلة فصارت الأم والابنة والحبيب. برأت زينب عفيفى بطلاتها من كل شائبة أو جرم، المستوى الأول لدينا امرأة غدر بها حبيبها، فتزوجت رجلًا فظًا، لا يعرف سوى العمل والارقام وجنى المال، ومصاحبة النساء، هل هو صورة كربونية للسيد أحمد عبدالجواد؟
لكن الزوجة «راجية» لم تكن أبدا صورة من «أمينة» بين القصرين كما جاء فى الدراسات النقدية، لكن دراسة العبقرى نجيب سرور لشخصية أمينة وضعتها فى مربع الشخصية الإيجابية التى واجهت خشونة الزوج بأساليب دفاعية مبهرة، نافيًا عنها صفة الخنوع والاستسلام.
لكن كيف مارست راجية حياتها الزوجية؟، وهى تخفى حبًا لرجل آخر ظلت تحمل ذكرياتها معه فى صندوق الأسرار؟!
أما سليم علوان- ونتذكر الاسم المماثل فى «زقاق المدق» لمحفوظ - الحبيب الذى أحب فى شبابه زميلته «راجية»، وفى شيخوخته يقع فى حب ابنتها «مى». تصفه الأم بقولها: «كان زميلى فى الجامعة، خدع أقرب صديقاتى، تخلى عنها بعد أن وعدها بالزواج، إنه مخادع مثل ما يكتبه، إننى لا أحبه، ولا أحب قصصه».
تهدم الأم هذا الصنم الذى صنعته الابنة عبر قراءتها لرواياته أمام فتح صندوق أسرار الأم الصامتة لنتعرف على الحكاية، هكذا تنسج خيوط الرواية المضادة رواية الأم، وعبر ثلثى الرواية تتأرجج شخصيات زينب عفيفى بعنف، تتساقط الحكايات والأسرار والمفاجآت، أمى أحبت «سليم علوان»، ومارست الجنس بجسدها مع أبى، يعنى ذاقت الحالتين، أما أنا فمحرومة من الخيال والواقع، جسدى المحروم وروحى الهائمة».
تناقش الرواية قضايا من قبيل الحب الرومانسى، ومتطلبات الجسد، التضحية فى سبيل الآخرين، والعزلة، والأمان النفسى، وموقف الإنسان من العالم، ونظرته للجمال والإبداع، والعلاقة بين الإبداع وصاحبه، وأثر الإبداع فى سلوك المبدع، وموقفه من الآخرين، هل نحاسب المبدع على ما يكتبه من فن، أم نحاسبه عن سلوكياته تجاه الآخرين، أتذكر كتاب «الجنوبى» للناقدة عبلة الروينى، عن علاقة الشاعر الكبير أمل دنقل بفنه وعلاقته بالآخرين سواء المبدعون أو المتلقون. لا تؤمن زينب عفيفى بالكتابة النسوية، الإبداع لديها لا يخضع لنوع المبدع أو جنسه، إلا أن الرواية تميل نحو الجسد الأنثوى، ليس غواية للرجل، كماهى الحال فى موروثنا المجتمعى والثقافى، لكنه غواية لسرد المرأة فقد اشتغلت الكاتبة على الجسد وحمولاته، ولتزيد من فضول وشوق المتلقى فإنها أجادت لعبة الاضمار والتصريح والاخفاء والتقنع بالمجازى. فى النهاية تقف «مى» من سليم موقفًا يتأرجح بين الحب والانتقام، لما سببه لأمها من عذاب الفراق، إلا أنها تتخذ من التسامى موقفًا يتفق وطبيعة شخصيتها.
كانت راجية ومى صديقتين لى، وأنا أحلم بجوارهما.
رابط دائم: