عندما ينتهى كل هذا ونتغلب على الفيروس التاجي، ستحتاج أمريكا إلى معالجة الفوارق الصحية فى المجتمعات الملونة خاصة بالنسبة للمواطنين من أصل إفريقي، بهذه الكلمات استطاع الدكتور أنتونى فوسي، الخبير فى مجال الأمراض المعدية فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلقاء الضوء على عمق الفجوة «العنصرية» التى باتت تتسع داخل المجتمع الأمريكى بين البيض والملونين، فقد كشفت أحدث الأرقام والبيانات لعدد من الولايات أن الأمريكيين من أصل إفريقى يموتون بشكل «غير متناسب» من الفيروس التاجي، ليس بسبب أن كورونا تمتلك أعينا خفية تستطيع التمييز بين اللون والعرق، وإنما هو نتاج تاريخ طويل من التمييز العنصرى يدفع فاتورته الآن العديد من المواطنين فى تلك المجتمعات الفقيرة المهمشة.
ووفقا للبيانات الصادرة عن حكومة ولاية ميتشيجان، ترتفع الوفيات بسبب كورونا بنسبة 41% بين الأمريكيين من أصول إفريقية الذين يشكلون نحو 14% من سكان الولاية، وفى ولاية إلينوي، يشكلون نحو 14% من السكان، لكنهم يمثلون 32.5% من وفيات الفيروس التاجي، ولا يختلف الحال كثيرا فى ولاية لويزيانا، حيث يموت ما نسبته 70% من المواطنين من أصل إفريقى الذين يشكلون 33% من السكان. أما فى مدينة نيويورك، ووفقا لبيانات الحكومة المحلية، من المرجح أن ترتفع نسبة الوفاة بالنسبة للأمريكيين من أصول إفريقية ولاتينية بسبب الفيروس التاجى مرتين مقارنة بأقرانهم من البيض.
سيكون من الخطأ القول إن الفيروس التاجى أحدث «الفوارق العرقية» التى نراها الآن، ولكن يمكن القول إنه ساهم فى تضخمها بشكل لا يصدق، فبالنظر إلى «المحددات الاجتماعية الصحية»، مثل الموقع الجغرافى والوظيفة ونوع الرعاية الصحية المقدمة، يمكن القول إن «العنصرية الهيكلية» قد تركت الأمريكيين الأفارقة عرضة لـ «الخطر والتهميش»، حيث تقول الدكتورة أوتشى بلاكستوك لموقع «سى إن بى سي» إنه حتى قبل ظهور هذا الوباء، كانت لدى الولايات المتحدة الأمريكية «تفاوتات صحية كبيرة»، أدت إلى زيادة الإصابة بأمراض السكرى وارتفاع ضغط الدم والربو والسمنة فى مجتمعات الأمريكيين من أصول إفريقية، وكما نعرف فإن تلك هى الحالات الطبية الأساسية التى تؤدى إلى مضاعفات خطيرة للغاية فى حالة الإصابة بالفيروس التاجي، ولكن السؤال: كيف ساهم كل ذلك فى التفاوتات العرقية الصحية التى نراها اليوم؟
صحارى الطعام
بسبب تاريخ من التمييز فى سياسة الإسكان، وهى الممارسة النظامية لرفض توجيه الموارد الحكومية للأحياء التى يغلب عليها الأمريكيون من أصول إفريقية لاعتبارها «مخاطرة مالية»، اضطرت أجيال من الأمريكيين من أصل إفريقى للعيش فى مناطق تفتقر إلى خيارات الحصول على الأطعمة الصحية، فالعديد من هذه الأحياء، والتى يطلق عليها الباحثون مصطلح «صحارى الطعام»، لكونها مناطق نائية تفتقر إلى موردى الطعام الصحى كالأسماك والدجاج والفواكه والخضراوات الطازجة، مليئة بمطاعم الوجبات السريعة ومتاجر الأغذية المصنعة والمحملة بالدهون والسكريات، حيث تقول شينارا تيت، مديرة التغذية فى مركز ماونت سيناء للأكل واضطرابات الوزن فى نيويورك إن الخيارات الغذائية لهؤلاء السكان ليست «أخلاقية»، بمعنى أنها تتم من خلال «عقلية البقاء» فقط دون النظر إلى ترف التفكير فى التأثير طويل المدى للنظام الغذائى على صحة هؤلاء الأشخاص. فمثلا إذا كان لدى الشخص خيار شراء بصل مقابل دولار أو شراء وجبة مقابل دولار، فمن المنطقى شراء الوجبة حتى لو لم يكن الخيار الأكثر صحة لأن البصل ببساطة لن يطعم عائلته!، ونتيجة لذلك، يميل السكان فى هذه المجتمعات إلى الاعتماد على الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية التى تكون أرخص وأكثر سهولة فى الحصول عليها، برغم كونها السبب الأساسى فى العديد من الأمراض المزمنة كالسكرى وارتفاع ضغط الدم والسمنة والتى تزيد بدورها من خطورة مضاعفات الفيروس التاجي.
أجور منخفضة
على الرغم من إصدار قانون الحقوق المدنية الأمريكى لعام 1964 الذى يحظر التمييز فى العمل بين المواطنين، إلا أنه ليس من المفاجئ القول إن المواطنين من أصول إفريقية لا يزالون يواجهون بعض الحواجز العنصرية التى تؤثر على تقلدهم لبعض المناصب العليا، لذلك يتم تحييد هؤلاء الأشخاص بجانب المواطنين من أصول لاتينية - فى وظائف منخفضة الدخل والتى غالبا ما تفتقر إلى التأمين والاستحقاقات. فوفقا لتقرير معهد بروكينجز لعام 2019 نجد أن أجور العمال من أصول إفريقية ولاتينية - الذين يتمتعون بنفس مستوى التعليم والخبرة بالنسبة للعمال البيض - أقل كثيرا، حيث يحصل 63% من العمال من أصل لاتينى و54% من العمال من أصل إفريقى على أجور منخفضة، مقارنة بـ 40% من العمال الأمريكيين الآسيويين و37% من العمال البيض. وتشمل بعض هذه الوظائف «الكاشير» فى متاجر البقالة ومساعدى الصحة المنزلية وعمال الوجبات السريعة، وغيرها من وظائف قطاع الخدمات التى اعتبرت «ضرورية» خلال جائحة الفيروس التاجي، حيث لا تتطلب هذه الأدوار من العمال العمل خارج المنزل فحسب ولكن العديد منهم أيضا لا يحصلون على إجازة مرضية أو إجازة عائلية مدفوعة الأجر، كما أن عدم وجود تأمين صحى شامل لهؤلاء العمال، يمنعهم من المتابعة الدورية المهمة لحالتهم الصحية، وبالتالى فإن فرص نجاتهم من فيروس كورونا قد تكون منخفضة للغاية.
عنصرية النظام الطبى
بالنسبة للأمريكيين من أصول إفريقية الذين لديهم إمكان الوصول إلى التأمين الصحي، فإن الذهاب إلى الطبيب ليس دائما عملية سلسة، فمنذ فترة طويلة كانت هناك حالة من عدم الثقة بين المرضى من أصول إفريقية والقطاع الطبي، ويرتبط هذا الارتياب، وفقا لكثير من الخبراء، بتجربة «توسكيجى الزهري»، ففى عام 1932 استغلت خدمة الصحة العامة الأمريكية 600 رجل من أصل إفريقى من بلدة توسكيجى التابعة لولاية ألاباما الأمريكية، 399 منهم مصابون بمرض الزهرى و201 لم يصابوا به، لإجراء دراسة «سرية» حول تطور المرض القاتل من أجل العثورعلى علاج. بالطبع لم يتم إخبار الرجال بغرض الدراسة بل قيل لهم إنهم يعالجون من «دم سيئ». انتهت الدراسة التى كان من المفترض أن تستمر لمدة ستة لأشهر بعد نحو 40 عاما، لم يقدم الباحثون والأطباء خلالها أى علاج لهؤلاء المرضى على الرغم من توصلهم لعلاج فعال فى عام 1947. ونتيجة لذلك، مات العديد من المشاركين وبعضهم أصيب بالعمى والبعض الآخر عانى من مشاكل صحية حادة أخري، وفى بعض الحالات نقل الأزواج المشاركون المرض إلى زوجاتهم اللاتى نقلن الزهرى إلى أجنتهن أيضا.
وبخلاف هذه التجربة القاسية، تشير الأبحاث الحديثة إلى أن الأطباء يتجاهلون «إلى حد كبير» شكاوى الألم لدى المرضى الملونين أو يقللون منها أكثر من المرضى البيض، والبعض يرجع ذلك إلى معتقدات الناس الراسخة حول الاختلافات البيولوجية بين الملونين والبيض والمرتبطة بإدراك أن الملونين يشعرون بألم أقل من الأشخاص البيض، لذلك يوصى الأطباء بعلاجات غير كافية لآلامهم.
بجانب كل ما سبق فقد أعادت النساء إثارة المخاوف المحيطة بارتفاع معدلات الوفيات للأمهات من أصول إفريقية، وبرغم أنه وفقا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، تموت نحو 700 امرأة فى الولايات المتحدة كل عام نتيجة لمضاعفات الحمل أو الولادة، إلا أن البيانات التى تم جمعها من قبل نظام مراقبة الوفيات أثناء الحمل بمركز مكافحة الأمراض والوقاية منها أظهرت أن «التفاوتات العرقية الكبيرة فى الوفيات المرتبطة بالحمل موجودة» وأن النساء من أصول إفريقية معرضات لخطر الوفاة المرتبطة بالحمل ثلاث إلى أربع مرات أكثر من النساء البيض، وهذا التفاوت تم تسليط الضوء عليه بصورة أكبر حينما تداولته لاعبة التنس المحترفة سيرينا ويليامز والمطربة بيونسيه اللتان تعرضتا لإهمال من جانب مسئولى الرعاية الصحية أثناء عمليات الولادة رغم كونهما من طبقة المشاهير وأصحاب الثروات. ونتيجة لما سبق وإدراكا لتاريخ التحيز الضمنى فى الرعاية الصحية، فقد نصحت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها مؤخرا الأطباء بتحديد ومعالجة التحيز الضمنى الذى يمكن أن يعيق التفاعلات والاتصالات مع المرضى خلال الوباء، حيث يقول الدكتور إيرل كامبل، وهو أول زميل منظار إفريقى أمريكى متقدم فى جامعة ييل، إن إحدى الطرق لتحسين مستوى الثقة بين المرضى من أصول إفريقية والإخصائيين الطبيين هى تنويع القوى العاملة الطبية، حيث يؤكد أن نسبة الأطباء من أصول إفريقية فى الولايات المتحدة منخفضة للغاية نحو (5% فقط).
رابط دائم: