رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

فى ذكراه
أمل دنقل شاعـر الرفـض

د. رضا عطية



استطاع أمل دنقل (23 يونيو/ 1940ــ21 مايو/ 1983) الذى تحل ذكرى رحيله السابعة والثلاثين هذا الشهر أن يتبوأ مكانة خاصة فى شعر الحداثة العربية فى نوع قصيدة التفعيلة العربية التى يتنمى أمل للموجة الثالثة من شعرائها، تلك الموجة التى بزغت فى ستينيات القرن العشرين وكان من أبرز وجوهها محمود درويش ومحمد إبراهيم أبو سنة وفاروق شوشة. اقترن شعر دنقل بفترة مهمة من تاريخ مصر والعرب، فترة ما بعد الكولونيالية ونكسة يونيو 67، ثم اتفاقية السلام مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر، ما جعل خطابه الشعرى معبرًا عن الجدل السياسى والمجتمعى بأثر تلك التحولات الفاصلة فى تاريخنا المعاصر.

.........................

ينتمى أمل دنقل إلى تيار النقد الاجتماعى، فقد عبَّر شعره عن اتجاه الرفض، مشحونًا بنبرات السخط والمقاومة وعدم الخضوع للتيار السائد، كما حفل خطابه الشعرى بتشريح أسباب الهزيمة القاسية والصادمة أمام العدو الصهيونى وعبّر أيضًا عن الغضب العارم إزاء ردة فعل الجبهة الداخلية على الهزيمة، كما فى قصيدة «بكائية ليلية» التى يهديها إلى صديق فلسطينى استشهد فى صحراء النقب: (نتوه فى القاهرة العجوز، ننسى الزمنا/ نفلت من ضجيج سياراتها، وأغنيات المتسولين/ تُظللنا محطة المترو مع المساء.. متعبين/ وكان يبكى وطنًا.. وكنتُ أبكى وطنًا/ نبكى إلى أن تنضب الأشعار/ نسألها: أين خطوط النار؟/ وهل تُرى الرصاصة الأولى هناك.. أم هنا؟). تكشف هذه القصيدة التى تحتوى على نقد صارم للقاهرة بوصفها المركز الدولاتى عن شعور المثقف بشيخوخة المجتمع القاهرى، أى عدم قدرة المركز، القاهرة، على مواكبة الزمن ومتغيرات العصر، وهو ما يدعو المثقف الوطنى إلى الانسلاخ عن الزمن الآنى لعدم قدرته على التوافق معه والعيش فيه، كما يبدو الفضاء الاجتماعى لهذا المركز طاردًا للمثقفين، لما يحتويه من فوضى وعشوائية اجتماعية، تتمثل فى ضجيج السيارات وأغنيات المتسولين بوصفها آليات للتحايل الاجتماعى من أجل الكسب المادى، كما تسفر وضعية السيارات فى مقابل المتسولين عن البون الاجتماعى الفادح والتفاوتات الطبقية الشاسعة فى تلك المدينة المركز. وكأنّ الوعى الناقد لمثقف عضوى مثل أمل دنقل قد دفعه للتفتيش عن الأسباب الاجتماعية للهزيمة العسكرية، مبرزًا أن خطوط النار وساحة القتال لا تقتصر فقط على ميدان العمليات العسكرية، فلا بد من إصلاح المجتمع من الداخل، كما يتبدى أنّ ثمة شعورًا بالغًا بالانكسار من ناحية وعجز الشعر من ناحية أخرى، إذ تنضب الأشعار فى التعاطى مع فجيعة الهزيمة، ما يؤكّد تمادى الهزيمة فى ثقلها وكارثيتها.

وبقدر ما كان أمل دنقل شاعرًا عروبيًّا يعتز بالقومية العربية، مؤمنًا بضرورة توحُّد العرب لدحر العدو الصهيونى، فقد كان كان أيضًا شديد الاعتزاز بالهوية المصرية وخصوصيتها، فيقول فى قصيدة «ميتة عصرية»: (-من ذلك الهائم فى البرية؟/ ينام تحت الشجر الملتفِّ والقناطر الخيرية؟/ -مولاي: هذا النيلُ../ نيلُنا القديم!/ -أين تُرى يعملُ.. أو يقيم؟/ -مولاي:/ كنا صبية نَنْدسُّ فى ثيابه الصيفية/ فكيف لا تذكرهُ؟/ وهو الذى يُذكر فى المذياعِ والقصائد الشعريّة؟/ -هل كان قائدًا؟/ -مولاي: ليس قائدًا/ لكنما السيّاحُ فى الشتاء ذى الأقمصة/ القصيرة الأكمام/ يأتون كى يروه../ - آه.. ويُصوّرنه.. بوجهه الباكي/ وكوفيته القطنية/ لكى يُشَهِّروا بنا/ بالنظم الثورية../ تعال كى نودعه فى ملجأ الأيتام). تبدو هذه القصيدة مرثية للنيل وبكائية للنهر الذى مثّل شريانًا للحياة والحضارة عند المصريين، الذى يبدو متألمًا باكيًّا رُبما للنسخ الهوياتى الذى ألم بالأمة المصرية، ما جعلها هدفًا لتشهير الأجانب والمتربصين بالدولة المصرية حقدًا على تاريخنا الحضارى. ويبدو من تناول أمل دنقل للكيانات والمفاهيم الكبرى، كنهر النيل، كمكوِّن رئيسى فى الشخصية المصرية، ميله إلى التشخيص فى التصوير، أى تذويت مثل هذه الكيانات، كما يرفد دنقل بنيته النصية بتقنيات تبدو مستعارة من خارج النوع الشعرى، كاستثماره تقنية الحوار، التى هى من آليات الدراما أكثر من الشعر، ما يضفى على الخطاب الشعرى إيقاعًا جدليًّا وحيوية دافقة.

وكما اتخذ دنقل نقد المجتمع طريقًا له وموقفًا حاسمًا نجده كذلك يتجه إلى نقد الشعر والرثاء لحاله كما فى قصيدته إلى الشاعر محمود حسن إسماعيل التى يكاد يعلن فيها عن هزيمة الشعراء وخذلان الشعر فيقول: (من زمن الشعراء- الأناشيد/ للشعراء- السجاجيد/ من ومن الشعراء- الصعاليك/ للشعراء المماليك/ أرسم دائرة بالطباشير/ لا أتجاوزها!/ كيف لى وأنا أتمزّق ما بين رُخين؟/ والقدمانِ معلقتان بفَخين!/ أعيانى الكر والفرُّ/ واجتازنى الخيرُ والشرُّ). تحمل هذه القصيدة إدانة صارخة لمواقف الشعراء، بعد التحوُّل عن صورة الشاعر القديم الذى كانت قصيدته نشيدًا أى نصًا للحماسة الجماعية، يضطلع من خلاله الشعر بدور شحذ عزائم الأمة إلى اتخاذ الشعراء موقف الخنوع والتخلى عن دور الشاعر الصعلوك المتمرد على تابوهات المجتمع وصرامة نظمه والثائر على الظلم الاجتماعى، ثمة إحساس ما بترسيم حدود الشعر فى نطاق أو دائرة، بما ترمز إليه الدائرة من انغلاقية، لا يحيد عنها الشعراء، ما يعنى جمود الشعراء. تبدو هذه القصيدة كمرثية صارخة للشعر وكذلك العالم، فيقول دنقل فى مقطع آخر: (واحد من جنودك- يا أيها الشعرُ-؟/ كل الأحبة يرتحلون/ فترحل شيئًا شيئًا من العين ألفة هذا الوطنْ/ نتغرّب فى الأرض نصبح أغربة فى التآبين ننعَي/ زهورَ البساتينِ/ لا نتوقف فى صحف اليوم إلا أمام العناوينِ/ نقرؤها دونَ أن يطرف الجفنُ/ سرعان ما نفتحُ الصفحات قُبيل الأخيرة،/ ندخل فيها نجالسُ أحرفها،/ فتعود لنا ألفة الأصدقاء، وذكرى الوجوه/ تعود لنا الحيوية والدهشة العرضية/ واللونُ، والأمنُ، والحزن/ هذا هو العالم المتبقى لنا: إنّه الصمتُ/ والذكرياتُ، السوادُ هو الأهل والبيتُ/ إنّ البياض الوحيد الذى نرتجيه/ البياض الوحيد الذى نتوحَّد فيه: بياضُ الكفنْ)، فيُعلن الشاعر عن أفول الحياة وشحوب العالم واغتراب الذات، وافتقاد الوطن بصورته الحميمة المختزنة فى الذاكرة، ما يُفضى بالذوات والشاعر منهم إلى الزهد فى الواقع والإعراض عن التعمُّق فى تفاصيله، والاكتفاء فى متابعة أحداثه بمطالعة العناوين الإخبارية دونما التوغل فى تفاصيلها، فى مقابل الانخراط فى قراءة صفحات الراحلين، فى مسلك انسحابى من واقع محايث فقد جدواه لدى الشاعر الذى يمارس حيلاً دفاعية، فرارًا من قسوة عالمه الذى لم يعد مواتيًّا لتحقيق أحلامه وتطلعاته، بالنكوص الارتدادى باستعادة قصص الراحلين وسيرهم، فيبدو الصمت والكف عن الكلام الذى هو إعلان للذات عن رأيها فى عالمها هو الخيار الذى تلوذ به الذات التى تستشرف الموت وتحس بدنو الرحيل.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق