رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

طائر الخوف.. و«حجر» يخص المرء وحده

أحمد الخميسى;

ممنوعون من الخروج، من المصافحة، من زيارة الآخرين، من ملاعبة أحفادنا الصغار. وفى نهاية المطاف يحظر عليك أن تربت بكفك على كتف امرأة لا تعشق أحدا سواها. تتبادلان أنت وهى النظرات والخوف ينقل نظراته بينكما، يتنفس يراقب يتابع. فى كتابها المعروف» حجرة تخص المرء وحده» تقول فرجينيا وولف إن المجتمع « لا يعترف بباب حجرة موصد» يوفر للكاتب العزلة للإبداع. لكن ما كان أمنية عند فرجينيا وولف أمسى « حجرا» يخص المرء وحده، كابوسا ثقيلا، لا علاقة له بالابداع. يقف المرء وراء زجاج النافذة، يمر ببصره على البيوت أمامه، ويشعر أن شيئا ما جديدا، مخيفا، يوحدها، أنفاس الترقب التى تتردد فى كل بيت، أصوات المزاليج التى تغلق الأبواب بإحكام كأنما لدفع الشر، النظرات القلقة: هل أن الوباء عقاب إلهي؟ أم نتيجة إهمال البيئة طويلا لصالح قلة من أثرياء البشر؟ هل يتراجع الموت وينحسر ظله؟ أم أن البشرية قد تفنى، ولا يبقى سوى جبال فى الريح وصخور وذرات تراب؟ ذات يوم كتب إيليا أبو ماضى يقول: « متع لحاظك فى النجوم وحسنها.. فلسوف تمضى والكواكب باقية»؟

........................................




فهل أننا على ذلك الطريق؟ وإلا فمن أين حط على أكتافنا طائر الخوف الضخم؟ كأن الأرض تتنهد تنهيدة واحدة هائلة بكل اللغات والأديان؟، ويخاف كل امرئ بطريقته، بتكوينه، بأمانيه وذكرياته الخاصة، قلقه المنسوج من سنواته الطوال. زرت ابنتى الوحيدة مرات معدودة، وقفت أمامها من على مسافة بحذر، لم أصافحها، لم أقبلها، وعندما جلسنا متواجهين أشحت بوجهى وأنفاسى، وأنا أسأل نفسي: كيف تتحول محبتى التى طالما ارتوت منها ابنتى إلى ماء مسموم يهدد حياتها؟ وكيف تنقلب يداى المتضرعتان بالمودة إلى إبر تغزل الموت للآخرين؟ أكره جسدى الذى ينقلب من التعبير عن الحياة إلى عبارة موت موجزة. أعيش وحدى أغلب الوقت فى «حجر» يخص المرء وحده. أستمع من حين لآخر إلى الأغانى القديمة، عبدالحليم حافظ « بتقولى بكره قلبك ح يعطف.. وفى كل مرة توعد وتخلف». أغنيات الشاب الذى احترق فى محبات الصبا عندما كانت الحياة تبدو أكبر من لحظة، وأقل من الأبد. أقرأ بدون تركيز. أكتب المقالات بحكم عملى، أتصل بالأصدقاء والأقرباء أحدثهم فى الشئون العامة، وفى داخلنا سؤال غير منطوق: هل أنت بخير؟. أكتب قليلا، ويلوح وينأى ويرجع القلق: هل تمنحنا الطبيعة فرصة أخري؟. سؤال أشبه بالسلسلة الحديدية التى يربطون بها قدمى سجين فتسمح له بالحركة لكن بحيث يظل مقيدا أينما ذهب إلى السؤال. وصف أحد العلماء كوكبنا الأرضى بأنه مجرد: «ذرة غبار فى شعاع شمس». ينقض على الوصف كجدار ثقيل «ذرة غبار». قد نكون عرضة للفناء، لكن لماذا لا أفقد الأمل؟ ولماذا أحب أن أثق فى أننا سننتصر على الكورونا كما انتصرنا من قبل على الطاعون والجدرى والانفلونزا الإسبانية التى حصدت أرواح خمسين مليون نسمة فى 1918. أنجرف إلى محمود درويش وأردد معه: « وبى أمل يأتى ويذهب.. ولكن لن أودعه». أرجع إلى قراءة رواية «آنا كارنينا». أطلب بالهاتف بعض المأكولات. أنتظر. أتابع أخبار انتشار الوباء. يغشانى الشك فى النجاة. أقول لنفسى إن كان الزوال قدر الانسان فعليه أن يصعد مفارقا لكن بكبرياء النجوم، وكبرياء العيون والأرواح التى أضاءت الأرض بالعلم والحب. أستجمع قوتى وأكتب مقالا بعنوان عن الضحك فى وجه الخطر، وعن أنه لا شيء يهزم الإنسان، أكتب لأنى أشعر أنه من المخجل أن يسيطر الفزع على الانسان، ومن المخجل ألا ننشر الأمل، ومن المخجل أن يبدى الانسان ما يشعر به من ضعف. لقد أحببت دوما كل الرجال الذين واجهوا الموت برأس مرفوع وجبين عال. لوركا أمام كتيبة الإعدام وفى فمه قصيدة، سبارتاكوس على الصليب فى الطريق من روما إلى كابوا، عبدالخالق محجوب، ذكر أن الكبرياء لحظة الوداع هى انتصار الانسان الأخير. أضع على صفحتى فى فيس بوك أغنية جوليا بطرس: « بكره بيخلص ها الكابوس.. وبدل الشمس بتضوى شموس.. وعلى أرض الوطن المحروس.. راح نتلاقى يوما ما». أفكر فى الكتب التى خططت لانهائها ولم ألحق: كتاب» ملاحظات كاتب قصة قصيرة»، كتاب آخر مترجم لم يبق سوى مراجعته. مجموعة قصصية بعنوان» أشواق شاقة». أنتقل من الصالة إلى المطبخ لأعد فنجان قهوة. أستحضر صور أحبائى، عيونهم، وأمعن النظر فيها. أخاطبهم فى خيالي: أنتم كل منالى، وسوف أحبكم بكل قوة حضورى فى هذه الدنيا وكل قوة غيابى إن لم أكن حاضرا. لكنهم لسبب ما لا يقولون شيئا. ينظرون إلى بصمت. يخطر لى أننى إذا مت فسوف أنضم إلى والدى فى مرقده بمدينة المنصورة، وهناك سوف نواصل بمعجزة ما أحاديثنا التى انقطعت عام 1987، وسأحكى له عن كل ما فاته من أحداث ووقائع، وسأتطلع بسرور إلى دهشة عينيه الطفولية مرة أخرى. ولا يفارقنى القلق على مصير الكرة الأرضية الصغيرة، التى لا تكف عن الدوران، واللهاث، الكرة التى ليست سوي: «ذرة غبار فى شعاع شمس»، كوكب صغير جدا بين مليارات الكواكب فى فضاء لا نعرف بدايته من نهايته. تنبثق أحيانا ذكريات المعتقل عام 1968 عندما كنت محبوسا انفراديا فى زنزانة لثلاثة شهور.

حينذاك أفزعنى خيط دم عالق على جدار الزنزانة. رحت أفكر: لمن هذه الدماء الجافة؟ وكيف أسالوها؟. فى الفجر كانت العصافير تهبط إلى حافة كوة الزنزانة، أسمع زقزقاتها تنقر الصمت،أرقبها على أمل أنها قد تنقل إلى كلمة ما من العالم الذى لا أراه، لكن الخيبة تتسلل إلى روحى وأنا أكتشف أن العصافير لم تكن معنية بأى شيء، لا بالحرية التى ترمز إليها فى نفوسنا، ولا بعطفنا عليها، ولا بأى شيء. كانت فقط تنقر شبابيك الزنازين بحثا عن فتات طعام، ثم تضرب بأجنحتها مرتفعة وتختفى من دون مبالاة بأى شيء، مثلما لا تبالى بنا الآن الصخور والسحب والأرض والشموس والقمر والرياح. لا تبالى الطبيعة بنا، نحن الذين منحناها الحب والقصائد والأغنيات واخترعنا لها الغزل والحنان والرقة. فى السجن كان الباب المصفح الموصد مصدر الخوف، أما الآن فإن القلق يتمطى فى الهواء ويطل من كل نسمة عابرة. فى الزنزانة كنت أشعر أننى محبوس لكن العالم حر. الآن محبوس فى عالم محبوس يتنادى أبناؤه ويتصايحون فى إيطاليا والهند وفرنسا بحثا عن كمامات ومصل ولقاح ودواء. تتعرى بقوة حقيقة أن الإنسان عاجز، وأنه لم يضع فى اعتباره من قبل لا البيئة ولا نظاما صحيا ولا أدوية فعالة وانشغل بصناعة الصواريخ، والقنابل، والرصاص وجنازير الدبابات. هل أننا نتحمل أوزار التجربة الرأسمالية التى لهثت وراء الربح وحده؟ أم أن الأمر أكبر من تلك القضية؟

فى «الحجر» الذى يخص المرء وحده، يخطر لى أن الانسان هو الذى أضفى على الطبيعة المنطق، والهدف، والغاية، ليجعل كل شيء معقولا ومنطقيا، لكن الطبيعة فجأة تسخر من كل ذلك التاريخ بعطسة صغيرة. أستعيد عبارة د. هـ. لورانس: «الحياة هى الحياة.. أما إدخال فكرة الغاية فيها فإنه بمثابة تدمير كل شيء». رغم ذلك أظل أصون صوت الأمل فى أن الانسان سيدحر الوباء، وأن العالم سيعيد التفكير فى أولوياته، بحيث تتصدر المشهد عبارة الأديب الفرنسى البير كامو: « إذا فشل الإنسان فى الجمع بين العدالة والحرية فسوف يفشل فى كل شيء». لا أفقد الأمل ولا لحظة، أو قل إننى لا أحب أن أفقد الأمل، وأظل أردد مع صوت جوليا بطرس الرنان الجميل:»بكره بيخلص ها الكابوس.. وبدل الشمس بتضوى شموس». نعم. سينتهى الكابوس وينقشع مثل سحابة عابرة، ويبقى الانسان الذى أضفى الجمال على كل شيء بالقصائد والأغانى والفروسية والعلم والغزل والقبل والحنان، ولا يعقل أن يهزم مخلوق جميل كهذا.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق