قبل ستة أسابيع، فرض رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، حظرا صارما علي الصعيد الوطني للسكان البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، حيث أمر مودي الجميع بالبقاء في منازلهم وأغلقت حكومته كل شيء تقريبا من المدارس والمكاتب والمتاجر إلي السكك الحديدية والحافلات، حتي الحدود الفاصلة بين ولايات الهند كانت مغلقة، وهي إجراءات ـ وإن أحدثت ارتباكا شديدا في البداية نظرا لأنه لم يتم إعلانها مسبقا ـ لكنها مع الوقت بدأت تلقي تجاوبا كبيرا من جانب السكان الذين كانوا يشعرون بالخوف الشديد من الإصابة بالفيروس التاجي, بجانب عدم الثقة في نظام الرعاية الصحية المحاصر في الهند لإنقاذهم.
ولكن مع مرور الأسابيع تراكمت الأعباء الاقتصادية وأصبح الناس يائسين، حيث عانت شريحة كبيرة من السكان من ضيق العيش، فهم لا يحصلون سوي علي بضعة دولارات قليلة في اليوم الواحد لسد حاجاتهم، ومع استمرار الإغلاق الكلي تم طرد ملايين لا تحصي من العمل، وهو ما دفع إلي تدفق عمال لا حصر لهم عائدين إلي قراهم مرة أخري علي أمل الاعتماد علي أسرهم ومزارعهم في توفير لقمة عيش لهم، بينما لا يزال البعض الآخر من العمال العاطلين عن العمل معزولين في مدن الهند المختلفة بدون أي مصدر للدخل معتمدين فقط علي وجبات الطعام التي تقدمها لهم الحكومة أو بعض الجمعيات الخيرية.
ومع زيادة الضغط، خففت الحكومة المركزية والعديد من الولايات قواعد الإغلاق مؤخرا مما سمح باستئناف بعض الأنشطة التجارية كإعادة تشغيل الحافلات وبعض الشركات الصغيرة والمتاجر مثل صالونات الحلاقة ومتاجر الحيوانات الأليفة وحتي السماح بإجراء مراسم الزفاف الصغيرة، ولكن سرعان ما تحول الأمر إلي فوضي، فشوارع وأحياء الطبقة العاملة التي كانت مهجورة من قبل أصبحت مكتظة بالناس، وتدفق المشاة علي جانبي الطريق يرتدون الكمامات ـ كما تأمرهم السلطات بالطبع ـ لكن الكثير منهم يلبسونها بشكل خاطئ، حيث يبقون أفواههم مكشوفة! حتي متاجر الخمور التي أعيد فتحها منذ أيام للمرة الأولي منذ بدء الإغلاق (لحاجة الحكومة الماسة إلي إيرادات الضريبة الخاصة بها)، لم يكن هناك أي أثر لمفهوم «التباعد الاجتماعي» أمامها، وكان الأمر أشبه بالفوضي المطلقة، حيث اصطف الناس بشكل متلاصق، لدرجة أن الشرطة لجأت إلي استخدام العنيف لتفريق الحشود!
أما عن منازل الأحياء الفقيرة فحدث ولا حرج، فمع ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير وجد الأشخاص الذين يعيشون في أحياء ضيقة وشقق صغيرة تؤوي أحيانا أكثر من ثمانية أشخاص, أنه من غير المحتمل البقاء في منازلهم كما أمرت الحكومة لمدة أكبر من ذلك، ففي كل ليلة عندما تغادر الشرطة كان الناس يخرجون إلي الشوارع كما لو كانوا يحتفلون!
الفيروس اللعين ينتشر بقوة في أنحاء الهند، هذا ما أشار إليه تقرير وزارة الصحة الهندية حيث أعلنت أن عدد الإصابات الخاصة بكورونا تخطي حاجز الـ 50 ألف مصاب وأكثر من ألفي حالة وفاة. بالطبع تبدو هذه الأرقام منخفضة نسبيا مقارنة بالنقاط الساخنة في أوروبا وأمريكا الشمالية، كما أن الهند ـ كما نعرف ـ هي ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وبالتالي فإن نسبة الـ 50 ألفا من إجمالي تعداد السكان البالغ 1٫3 مليار نسمة ليس بالرقم الضخم، ولكن حتي الآن لم تجر الهند سوي 902 ألف عينة اختبار للفيروس، وهو ما يعادل نحو 700 اختبار لكل مليون شخص، وهو واحد من أدني المعدلات في العالم، لذلك يعتقد البعض أن هذه الأرقام لا تكشف عن الصورة الحقيقية لخريطة انتشار الفيروس في البلاد, وعلي الجانب الآخر، بدأ البعض يتحدث عن تطبيق استراتيجية «مناعة القطيع»، فهل تستطيع بالفعل إنقاذ البلاد من مخالب كورونا؟
«مناعة القطيع» توصف باعتبارها استراتيجية «ممكنة» في الدول الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية من الشباب، حيث يعتمد هذا النهج المثير للجدل ـ والذي تم التخلي عنه مؤخرا من قبل المملكة المتحدة ـ علي اكتساب غالبية السكان (60 إلي 80% منهم) مناعة أو مقاومة للفيروس عن طريق الإصابة بالعدوي ثم التعافي، في حين أن هذا النهج الشائع هو الأساس المتبع في بعض حملات التطعيم الشامل لأمراض مثل الحصبة ـ التي تعتمد علي لقاحات آمنة ومختبرة ـ إلا أن تجربته مع مرض مميت وجديد ولم يعرف العالم لقاحا له حتي الآن، يمثل خطرا كبيرا، ففي شكله الأكثر قسوة لا يعدو كونه نسخة من استراتيجية «البقاء للأقوي»، وهو ما أوضحه الدكتور مايك رايان، المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية خلال مؤتمر صحفي، حيث أكد أن مفهوم مناعة القطيع «خطير»، فهو مأخوذ أساسا من علم الأوبئة البيطرية، حيث يهتم الناس بالصحة العامة للقطيع ولا يهم الحيوانات الفردية بهذا المعني، فالبشر ليسوا قطعانا!
بجانب ما سبق، فقد أوضح تقرير لمجلة «فورين بوليسي» أن هناك عدة أسباب أخري ستؤدي إلي فشل هذه الاستراتيجية في الهند، أولها: لا يعرف الخبراء الكثير عن مناعة فيروس كورونا ولا سيما إلي متي تستمر المناعة ونوع الحماية التي تقدمها، وما إذا كان من الممكن التقاط العدوي مرة أخري أم لا، وهذه كلها أسئلة لا يزال الباحثون حول العالم، بما في ذلك الباحثون في منظمة الصحة العالمية، يحاولون اكتشافها.
ثانيا، يوصي بتطبيق مناعة القطيع للهند علي افتراض أنه نظرا لأن عدد سكانها كبير من الشباب في البلاد (أكثر من 80% تقل أعمارهم عن 44 عاما)، فإن العديد من هؤلاء لن يكون لديهم رد فعل شديد علي الفيروس التاجي، ومع ذلك، فإن هذا الافتراض يمثل مشكلة، لأن عشرات الشباب من الهنود لديهم أمراض مناعية تتمثل في السكر والضغط وأمراض الربو والالتهاب الرئوي ـ لزيادة نسبة المدخنين بينهم ـ والتي من الممكن أن تؤدي إلي إصابتهم بمضاعفات شديدة وقد تعرضهم لخطر الوفاة في حال التقاطهم العدوي. وبالتالي فإن السماح للفيروس بالانتشار من أجل استراتيجية تجريبية لـ «مناعة القطيع» يمكن أن يؤدي إلي دخول مئات الآلاف من الأشخاص إلي المستشفي ويحتاجون إلي رعاية مكثفة. علاوة علي ذلك، فإن السعي للحصول علي مناعة القطيع بين السكان الأصغر سنا يتطلب حماية كبار السن (نحو 50 مليون هندي فوق سن 65) الذين هم بالفعل في خطر أعلي، وهو ما يثير التساؤل حول كيفية عزل كبار السن من الهنود الذين يعيش كثير منهم في منازل عائلية متعددة الأجيال، والتي لا تزال هي القاعدة، خاصة في المناطق الريفية من البلاد.
ثالثا، لا يمكن تطبيق مناعة القطيع كاستراتيجية وحيدة، إذ يتعين استكمالها بزيادة قدرة النظام الصحي والتعاون بين القطاعين الصحيين العام والخاص وزيادة الاختبارات، وحماية السكان المعرضين لخطورة عالية وتنفيذ تدابير التباعد الاجتماعي مثل الاستخدام الإجباري للكمامات وحظر التجمعات الكبيرة وهي شائعة في المناطق الحضرية في الهند.
ونتيجة لما سبق فقد حدد التقرير بعض النقاط المهمة التي من الممكن أن تعتمد عليها الهند لمواجهة جائحة كورونا، أولها: سيتعين علي الحكومات المركزية وحكومات الولايات تنفيذ استراتيجية اختبار دقيقة تنتقل من نهج مستهدف يركز علي الأفراد المعرضين لمخاطر عالية إلي اختبار المجتمع ككل، بالإضافة إلي معالجة مشاكل نقص مجموعات الاختبار السريع, وكذلك تحفيز شركات التكنولوجيا الحيوية المحلية لتوفير أجهزة الاختبار.
ثانيا، يجب علي الحكومة تكثيف جهودها لتعقب الاتصال، ويمكن القيام بذلك عن طريق إنشاء ودعم فرق تتبع الاتصال تضم مسئولي الصحة العامة والشرطة والمتطوعين، كما يمكن استكمال تتبع جهات الاتصال والمراقبة من خلال الزيارات والمكالمات الهاتفية من قبل الفرق بتطبيقات التتبع المستندة إلي الهواتف المحمولة، فمن المعروف أن أكثر من 850 مليون هندي يستخدمون الهواتف المحمولة. ورغم الفوائد الكثيرة التي تمنحها هذه التطبيقات فإنها أثارت بعض المخاوف المتعلقة بالخصوصية مثل إمكانية قيام الحكومة بإعادة استخدام المعلومات الخاصة لأسباب أخري بخلاف التحكم في المرض، لذلك يجب معالجة هذه القضايا الأخلاقية إذا أرادت الحكومة ضمان ثقة العامة والامتثال لخطة الحكومة.
وأخيرا، يجب علي الهند أن تستثمر جيدا في نظام الصحة العامة من خلال تلبية الاحتياجات القصيرة الأجل مثل تخزين الأدوية ومعدات الحماية الشخصية وأجهزة التنفس الاصطناعي، فضلا عن الاحتياجات الطويلة الأجل مثل توظيف علماء الأوبئة وعلماء البيانات وإخصائيي المناعة وتعزيز نظم المعلومات الصحية.
كل ما سبق يستوجب تمويلا من الحكومة عن طريق زيادة تخصيصها الحالي البالغ 0.8% فقط من إجمالي الناتج المحلي للرعاية الصحية، ففي حين أعلنت الحكومة عن تحويلات نقدية وغذائية للأسر ذات الدخل المنخفض، إلا أنه يمكنها أن تخطو خطوة أبعد من ذلك من خلال دمج مخططات الرعاية الاجتماعية القائمة وزيادة التحويلات النقدية، علاوة علي ذلك، يمكن للحكومة تقديم منح نقدية وإعفاءات ضريبية للقطاعات التي تمثل شريان الحياة للاقتصاد مثل الشركات الصغيرة والنقل، وذلك لتحفيزهم علي العمل.
في النهاية يشير التقرير إلي أنه لا يمكن للهند أن تظل في حالة إغلاق طويل الأمد، لكن السماح للفيروس بالانتشار ليس بالتأكيد هو المخرج من ذلك, في حين أن استراتيجية «مناعة القطيع» تبدو جذابة وسهلة، إلا أنها ليست أكثر من مجرد رمية النرد الداروينية، والتي يمكن أن تؤدي إلي وفاة الملايين من الهنود! وإذا كانت الحكومة تريد إنقاذ الأرواح، فسيتعين عليها الخروج من الحظر الصارم من خلال توسيع نطاق اختبارها وتعقبه وقدرتها علي توفير العلاج وتعزيز نظام الصحة العامة وضمان شبكة أمان اجتماعي واقتصادي.
رابط دائم: