من القيم القرآنية الرفيعة قيمة الحوار والمحاورة، وهناك العديد من الحوارات التي أبرزها القرآن كمسلكٍ للإقناع والبلاغ والبيان مثل حوار الله - سبحانه وتعالى - مع الملائكة، وحوارهِ مع الشيطان، وحوار نوح - عليه السلام - مع ابنه، وإبراهيم -عليه السلام - مع قومه، وحوار موسى - عليه السلام - مع فرعون، وحوار لوط - عليه السلام - مع قومه ..إلخ .. كما أن حياة الرسول صلي الله عليه وسلم نموذج لكيفية البلاغ المبني على الحوار والإقناع البعيد عن فرض الرأي بالقوة وأخذ الناس بالشدة، بدليل أن دعوته في مكة، ولأكثر من ثلاث عشرة سنة، كان مسلكها الوحيد هو الحوار والبلاغ بالحسنى، وعندما ذهب إلى المدينة ونزل التشريع الضابط لسلوك الناس كان أيضًا مسلكهُ الحوار حتى مع تجرأ على أوامر الشرع كحواره مع الشاب الذي جاء يطلب منه الإذن في الزنا، فقد روى أبو أمامة أن غلاماً شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -« قربوه، ادن»، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتحبه لأمك؟ » قال: لا! جعلني الله فداك، قال «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟» قال: لا! جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟» قال: لا! جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم»، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره وقال: «اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا".
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لم يأخذه بالشدة بل أخذه باللين وخاطبهُ بالعقل وأقام معه حوارًا مبنيا على مقدمات تمهيدية وأسئلة منطقية وبرهان وحجج قوية.. حتى كان الاقتناع والتسليم، ليس ذلك فقط، بل قام من بين يدية - صلى الله عليه وسلم - وقد أبغض الزنا والتزم بالشرع.
ونحن الآن في هذا الزمان تعقدت المشكلات ونشبت النزاعات وخربت البيوت وتفككت الأسر، وكل هذا نتيجة لغياب قيمة الحوار التي تنتج المشاركة والمفاعلة والتعاون البناء، فقد اختفى الحوار على كل المستويات مما كان له بالغ الأثر على البيوت بارتفاع نسب الطلاق والتفكك الأسري، وعلى الكيانات السياسية بالتناحر والتصارع، وبين الدول على انتشار الحروب والنزاعات، مما يجعلنا نُذكر بفريضةِ الحوار - تلك الفريضة الإسلامية الغائبة عن واقعنا المعيش - حوار بين الحضارات للتجسير الحضاري والتبادل المعرفي، حوار بين أصحاب الديانات ليس حول المعتقدات ولكن من أجل التعايش ونشر قيم التسامح والتعدد، نحتاج لحوار داخل الكيانات المتصارعة في الكثير من البلدان لنشر ثقافة السلام، نحتاج لحوار داخل الأسرُ يُجيد فيه الكل "فن الاستماع" و"حوار العقول" و"مسالك الإقناع"، نحتاج لنظام تعليمي يجعل من الحوار ووسائله من سؤال ونقاش مسلكا للتعليم وبناء للشخصية.
رابط دائم: