ما بين الأفراح والأتراح، وفي توقيت مواكب لواحدة من أهم المناسبات التي طالما علقت وتعلق عليها موسكو كثيرا من آمالها في معرض استمرار جهودها الرامية إلي الحيلولة دون تشويه تاريخ انتصاراتها في الحرب العالمية الثانية، حققت موسكو أخيرا نجاحا نسبيا في الحد من وتيرة انتشار الفيروس القاتل، في أعقاب سلسلة من «الهزائم» التي منيت بها علي مدي ما يقرب من الشهرين. ومع ذلك وتزامناً مع احتفالاتها «المحدودة» بالذكري الخامسة والسبعين للنصر علي جحافل الفاشية الهتلرية بسبب القيود التي فرضها انتشار ذلك «الفيروس اللعين»، كشفت موسكو عن أنها مستمرة علي طريق القيود والإجراءات الاحترازية التي تستهدف من خلالها احتواء «الهجوم الكاسح» لذلك الفيروس الذي لا تزال البشرية تقف حياله مكتوفة الأيدي.. إلي حين الإفلات من «براثنه علي مراحل ثلاث.
أعلنت موسكو عن قصر احتفالاتها هذا العام بالذكري الخامسة والسبعين للنصر علي عرض جوي محدود في صباح التاسع من مايو في العاصمة وكبريات المدن الروسية، مع الاستمرار في تقليد إطلاق الألعاب النارية مساء نفس اليوم، إلي حين توافر الظروف الملائمة لاحتفالات جماهيرية واسعة النطاق في وقت لاحق من هذا العام بعد «انقشاع الغمة»، وتسجيل انتصارها علي الوباء القاتل» ثمة من يتوقع أن تكون في 24 يونيو المقبل.
وبهذه المناسبة خرج بوتين «وحيدا» إلي النصب التذكاري للجندي المجهول بجوار «الشعلة الخالدة» ليضع إكليلا من الزهور قبل إعلانه الوقوف «دقيقة حداد» في ذكري شهداء الحرب الوطنية العظمي. ألقي الرئيس الروسي كلمة قصيرة تناول فيها ما قدمه الأسلاف من مآثر وبطولات خالدة علي طريق دحر المعتدي وتحقيق النصر الخالد، مؤكدا أن روسيا ستحتفل كعادتها في السابق وبشكل واسع ومهيب بالذكري الخامسة والسبعين للنصر، علي النحو الذي يليق بتاريخ وقيمة الذين «عانوا وصمدوا وحققوا النصر». أما عن موعد الاحتفالات المرتقبة فثمة من يتوقعه في 24 يونيو المقبل، في إشارة تاريخية إلي أولي الاحتفالات بالنصر التي جرت في الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1945 في نفس التاريخ. وكان بوتين أعقب كلمته أمام «الشعلة الخالدة»، باستعراضه لدوريات حرس مشاة وفرسان الفوج الرئاسي داخل فناء الكرملين، فيما أرسل برقية إلي خريجي الكليات والمعاهد العسكرية، أكد فيها أن «الجيش الروسي مدعو إلي أن يكون قادرا علي مواجهة أي تحديات». وكانت روسيا أضافت إلي العروض الجوية المحدودة في سماء الميدان الأحمر بالعاصمة موسكو وعواصم مقاطعات وجمهوريات روسيا الاتحادية، الكثير من مشاهد العروض العسكرية السابقة التي حرصت كل القنوات التلفزيونية الروسية المحلية والفيدرالية، علي نقلها مصحوبة بتعليقات متميزة تعكس جلال وقيمة المناسبة. وبهذه المناسبة، أكدت موسكو أنها لن تألُو جهدا من أجل تأكيد عدم جواز التلاعب بنتائج الحرب العالمية الثانية، ولن تسمح لأي كائن كان بتشويه دور روسيا في النصر علي الفاشية. وجاء ذلك مواكبا لاشتعال أزمتها الدبلوماسية مع تشيكيا التي كانت استبقت احتفالات عيد النصر بإزالة تمثال المارشال إيفان كونيف قائد القوات السوفيتية التي نجحت في تحرير تشيكوسلوفاكيا، وقائد قوات حلف وارسو لاحقا، من موقعه في واحد من أكبر ميادين العاصمة براغ. وكانت السلطات التشيكية رفضت أيضا طلب وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو نقل التمثال إلي روسيا مع تولي وزارة الدفاع الروسية تمويل نفقات نقله، ما اعتبرته موسكو إهانة لا تقبلها، ومحاولة سافرة تستهدف تشويه وطمس دورها في تحرير شرق أوروبا من نير الفاشية. ورغم أن ميلوش زيمان رئيس جمهورية تشيكيا أدان قرار إزالة تمثال المارشال كونيف من موقعه واعتبر قرار السلطات المحلية التشيكية غير جائز ولا يليق، إلا أنه اعتبر احتجاج موسكو تدخلا في الشئون الداخلية لتشيكيا، وهو ما كانت السلطات التشيكية المحلية بررت به قرارها حول ازالة التمثال من موقعه. وفي هذا الصدد دعا مراقبون روس، الكرملين إلي أن يحذو حذو إسرائيل التي نجحت في إرغام العالم بأسره علي الانصياع لاعتبار تاريخ الهولوكوست «المحرقة اليهودية» إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، خطاً أحمر لا يجوز المساس به أو إنكاره، وفرضت ملاحقة كل من يرفض الاعتراف بهذا التاريخ، بموجب القانون الدولي. قالوا إن أحدا لم ينبس ببنت شفه احتجاجاً او اعتراضاً، ولم يقل أحد لا في تشيكيا ولا في غير تشيكيا، إن ما فعلته وتفعله اسرائيل يعتبر تدخلا في الشئون الداخلية للبلدان الأجنبية، تعليقا علي قرار ملاحقة كل من ينكر «الهولوكست»، كما لم يتخذ أحد موقفا مثل الذي اتخذه يانسن ستولتنبيرج الامين العام لحلف الناتو الذي أعلن تأييده لقرار السلطات التشيكية، واحتجاجه علي اعتراضات موسكو.
ورغم جلال المناسبة وطول فترة الاستعدادات لاحتفالات موسكو بالذكرى الخامسة والسبعين لانتصارات الحرب العالمية الثانية والتي كان الكرملين حشد كل جهوده علي مدار اكثر من العام لإخراجها بالشكل الذي يليق بها، بمشاركة أبرز قيادات العالم للمشاركة في احتفالاتها في الميدان الأحمر، فقد رأي فلاديمير بوتين إرجاء هذه الاحتفالات، خشية أن يكون ذلك سببا جديدا للمزيد من انتشار «فيروس كورونا» الذي صار الشغل الشاغل لكل قيادات روسيا خلال الشهرين الأخيرين.
وفي هذا الصدد نشير إلي ما شاب جهود السلطات الروسية من قصور تحاول موسكو جاهدة من أجل تجاوزه واحتواء سلبياته التي قفزت بأعداد المصابين إلي ما يقترب مجمله من المائتي ألف مصاب، تستحوذ العاصمة موسكو وحدها علي ما تزيد نسبته عن 55% من مجمل عدد المصابين في روسيا كلها. وعلي الرغم من أن هذه الأرقام تصدر عن اللجنة الحكومية المكلفة بمتابعة ومعالجة الكارثة، فقد خرج سيرجي سوبيانين عمدة العاصمة موسكو ليقول إن الأرقام الفعلية لعدد المصابين في موسكو وحدها، تقترب من 2-2،5% من عدد سكان العاصمة أي زهاء 300 ألف مصاب، وهو ما يزيد كثيرا عما تعلنه المصادر الرسمية!.
وبعيدا عن الأرقام التي تكشف نسبيا عن نتائج القصور الذي شاب معالجة الأزمة في أسابيعها الأولي، نتوقف لنشير إلي التردد الذي اتسمت به بعض المواقف والسياسات الحكومية في الأسابيع الأولي بعد الاعتراف ببدء انتشار الفيروس علي الحدود الشرقية «قادما» من الصين، وما أعقبه من وصوله إلي سان بطرسبورج «محمولا» من إيطاليا. وفيما حرص الرئيس بوتين علي الاستماع إلي آراء محافظي ورؤساء الجمهوريات والمقاطعات الروسية حول تقديراتهم للموقف، كشف عن موقف مرن في اتجاه التخفيف من القيود المفروضة علي حركة المواطنين وعمل مختلف المؤسسات الروسية في العاصمة وكبريات المدن والقاطعات الروسية، وهو ما «اعترض» عليه عمدة العاصمة سيرجي سوبيانين الذي تبني موقفا بالغ التشدد، مؤكدا الحاجة إلي المزيد من الوقت، والاستمرار في فرض «العزل الذاتي» للمواطنين، والإبقاء علي القيود المفروضة علي نشاط قطاعات الخدمات والثقافة والتعليم والرياضة حتي 31 مايو الجاري، بعد أن كان من المتوقع وحسب كثير من التصريحات «الحكومية»، استئنافه في 11 مايو. وننقل عن وكالة أنباء «تاس» ما نشرته حول نتائج استطلاع للرأي أجرته وكالة «نوفوستي .ميل. رو».حول أن نسبة 37% من المشاركين في الاستطلاع تري ضرورة التريث، حتي انحسار ظهور حالات الإصابة بالفيروس. وتشير هذه النتائج أيضا إلي أن ما يزيد علي 36% تري أن يتم ذلك في منتصف أو أواخر يوليو المقبل، بينما تري نسبة 27% أن يتم ذلك مع منتصف أو في نهاية مايو الجاري، في نفس الوقت الذي كانت فيرونيكا سكفورتسوفا مديرة الوكالة الطبية البيولوجية الفيدرالية الروسية توقعت فيه احتمالات الإعلان عن التخفيف من حدة القيود المفروضة مع منتصف يونيو المقبل. ومن اللافت أن ثمة إجماعا في الرأي يكاد يكون الأكثر رواجا في روسيا اليوم يقول بضرورة التقيد بارتداء «الكمامات» الواقية والقفازات خلال الفترة الاولي من رفع أو تخفيف القيود المفروضة حاليا، بوصفهما السبيل الأمثل للوقاية، مع ضرورة مراعاة أن الكمامات لا تفي بالغرض المخصص منها إلا في غضون ساعتين، تصبح بعدها مصدرا للعدوي لا واقية منه.
وللمزيد من التأكد والاقتراب من المصداقية العلمية، نستشهد بما صدر عن هيئة «روس بوتريبنادزور» (المؤسسة الفيدرالية للرقابة وحماية حقوق المستهلك ) التي قالت في آخر نشرة لها صدرت يوم السبت الماضي إنه تم إجراء أكثر من 5.2 مليون اختبار للكشف عن عدوي فيروس كورونا في كل روسيا الاتحادية. وأضافت انه وبموجب البيانات الصادرة عن مركز مكافحة المرض، فقد بلغ معامل انتشار عدوي »كوفيد-19» في روسيا، 1.06 - وتلك أدني قيمة تم تسجيلها منذ ظهور المرض. وفي موسكو، كان الرقم أقل بقليل من 1.06. وللمزيد من الإيضاح أشارت البيانات إلي «أن هذه النتائج الخاصة بحساب معامل انتشار المرض، تمت بموجب الصيغة التي أقرتها توصيات هيئة «روس بوتريبنادزور» والخاصة بتخفيف الإجراءات التقييدية التي تم فرضها سابقا بسبب انتشار الفيروس». وقالت إنه وللانتقال إلي المرحلة الأولي من تخفيف القيود في أي منطقة من روسيا، يجب ألا يزيد المعامل عن 1. واستطردت لتضيف «أن معامل انتشار المرض، يوضح عدد الأشخاص الذين يصابون بالعدوي بشكل متوسط من جانب شخص مصاب قبل أن يتم الحجر عليه أو عزله». وفي هذا الصدد نشير إلي ما اقترحته انا بوبوفا رئيسة «مؤسسة الرقابة وحماية المستهلك»،علي الرئيس بوتين حول أن «خطة الخروج التدريجي» من «نظام العزل الذاتي» تفرض ضرورة أن يجري ذلك عبر ثلاث مراحل، الأولي، وتسمح بخروج المواطنين للتريض في الشوارع القريبة من المسكن، شريطة توخي الحذر والالتزام بالتباعد والمسافات الفاصلة دون تزاحم. أما الثانية فتشمل رفع الحظر المفروض علي حركة المواطنين المحدودة، وفتح المدارس، بينما تشمل المرحلة الثالثة حرية الحركة في الحدائق العامة والمتنزهات والمتاجر الكبيرة وصالونات الحلاقة والتجميل..الخ.
ورغم كل المخاوف التي تزايدت حدتها في الفترة الأخيرة، وكذلك الجدل الذي يتواصل حول تجاوز روسيا لكل التوقعات التي كانت تفترض لها موقعا أفضل في قائمة الإصابات بكوفيد-19 بما تملكه من امكانيات، وما يُفترض لديها من إدارة متميزة للأزمات، فإن الأرقام الخاصة بالوفيات تقول إن روسيا تقع في مكانة أفضل كثيرا من الكثير من البلدان الغربية والولايات المتحدة، حيث إن عدد الوفيات فيها لم يتجاوز حتي مساء السبت الماضي 1800حالة ( مقابل عدد وفيات الولايات المتحدة التي بلغت ما يزيد علي ثمانين ألفا) بما يضع روسيا خارج دائرة البلدان المائة الأولي في قائمة إحصائيات الوفيات، في الوقت الذي تشغل فيه المرتبة الثانية عالميا في عدد الاختبارات التي أجرتها علي مواطنيها وهي 5،2 مليون اختبار من مجموع عدد السكان البالغ تقريبا 146 مليونا.
رابط دائم: