مقامُ الخيرية من المقامات الرفيعة التي اختص الله بها أمة الإسلام، يقول تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ.
وهذه الخيرية مشروطة بالأمر بالمعروف وهو جِماع كل خير، والنهي عن المنكر وهو جماع كل شر، فها هو سيدنا عمر بن الخطاب قال في حجّة حجّها ورأى من الناس رِعَة سيئة، فقرأ هذه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية، ثم قال: "يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها".
ونظرًا لأن الشر قد انتشر وفشا في سلوك الناس من قولٍ وفعلٍ، وجب أن نُذكر بأن «صناعةَ الخيرِ» و«الخيرية» بمفهومها الواسع «فريضة إسلامية»، ففريضة الخيرية عِمَادُها الحسن والجمال والمعروف والإحسان والمودة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي محلُ الميزان بأقل وحدةٍ للقياسِ - وهي الذرة - يقول تعالى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ "، ويقول أيضا: "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير"، لذلك كانت وسيلةِ الفلاحِ عبادة وفعل خير خالصين لله، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ».
ولقد دلت الآثار النبوية عن معالم فريضة الخيرية والتي تتجلى في الكثير من أفعال الخير، منها: «خير العبادة أخفها»، «خير المجالس أوسعها»، «خير دينكم أيسره"، «خير النكاح أيسره»، «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى»، «خير العمل ما نفع به. وخير الهدى ما اتبع»، «خير ما ألقي في القلب اليقين»، «خير الناس أنفعهم للناس»، «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه»، «خير الرفقاء أربعة، خير الطلائع أربعمائة، وخير الجيوش أربعة ألاف»، «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، «خيركم خيركم لأهله»، «خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره»، «خير بيوتكم بيت فيه يتيم مكرم»، «خير المال سكة مأبورة وفرس مأمورة»، «خير مساجد النساء قعر بيوتهن».
وعليه فما أحوجنا في هذا الزمان الذي اشتد فيه البلاء وزادت الفتن أن ندعو للخيرِ فهو فريضةُ هذا الزمان، نَحتاج لصناعة الخير لنفرج عن المكروبين ونُيسر عن المعسرين ونواسى المكلوبين ونُطعم الفقراء والمساكين ونكسو العرايا والمحتاجين، ونفتح طاقات النور للهداية والرشاد، ونؤلف بين قلوب العباد، نُصلح بينهم ونقضي عنهم ديونهم ونقوم على حوائج الضعفاء فيهم، ونتماسك ونتحد ونتعاون على البر والتقوى،هذا هو طريق نجاتنا ومضمار فلاحنا، ورحم الله القائل: «إن هذا الليل والنهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما، فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشر، وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها؛ فالمتقون يجدون في خزائنهم العز والكرامة، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة».
من علماء الأزهر
رابط دائم: