«كل شئ مباح فى لحظات الحب وأزمنة الحرب»، مقولة طالما سمعناها واستخدمناها فى حياتنا اليومية، ولكن هل يكون فعلا كل شئ مباحا خاصة فى مواجهة عدو «غير مرئي» لم يتوصل العالم حتى اليوم إلى اكتشاف سلاح رادع له، بينما ينتقل بكل سلاسة بين حدود الدول متفاخرا بحصد أرواح آلاف من البشر يوميا، تاركا وراءه مئات الآلاف من المصابين على عتبات المستشفيات فى انتظار دورهم للحصول على قبلة الحياة المتمثلة فى الجلوس على أجهزة التنفس الاصطناعي؟
حينما يواجه العالم جائحة كتلك التى يعانيها الآن, هل هناك مجال للحديث عن الحريات الشخصية؟ هل بإمكاننا إلقاء اللوم على دولة ما إذا استخدمت جميع وسائلها, بما فى ذلك غير المشروعة, فى حربها ضد هذا الفيروس الشرس؟ إنه بالفعل «وقت استثنائي» أجبر قادة العالم لاتخاذ خطوات «غيرمسبوقة» لمكافحة تفشيه، وبين الإغلاق التام والإجراءات الاحترازية الأقل صرامة، بدأ البعض يأخذ فى عين الاعتبار إمكانية انتهاج أداة صنفت بكونها «محورية» فى استراتيجية بعض الدول الآسيوية لمحاربة «كوفيد- 19» : التتبع الرقمي».
بداية من الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة إلى إسرائيل والهند، سخرت الحكومات فى جميع أنحاء العالم التكنولوجيا لخدمتها فى محاولة لرسم خريطة تفشى الفيروس التاجي, فإذا كنت فى الحجر الصحى فى الصين, دعنى أقول لك إنك ممنوع من المغادرة بأمر مباشر من الكاميرات المثبتة من قبل الحكومة لمراقبتك, وإذا قررت التجول بدون قناع سيتم إيقافك من قبل طائرة بدون طيار، والتى ستطلب منك ضرورة ارتداء قناعك, بينما ستكون مجبرا على استخدام «الرمز الصحي» الذى يتم تفعيله بتطبيق على الهاتف الذكى وهو قائم على اللون المعروض على شاشتك, الأخضر: أنت حر فى التجول, أما الأحمر يعنى أنك ممنوع من الدخول, كل ذلك ليس سوى بعض الطرق التى عبأ بها ثانى أكبر اقتصاد فى العالم جهاز مراقبته للمساعدة فى احتواء تفشى فيروس كورونا المستجد.
ولم يختلف الحال كثيرا في كوريا الجنوبية التى استخدمت سجلات مواطنيها كمعاملات بطاقاتهم الائتمانية وبيانات هاتفهم الذكي, لإنشاء نظام يقوم بتتبع الحالات المؤكد اصابتها بالفيروس, هذا فى الوقت الذى قام فيه جهاز الأمن الداخلى الإسرائيلى «شاباك» بانتهاج نفس أساليب اختراق الخصوصية لفرض ضوابط الحجر الصحى ومراقبة تحركات المصابين, وحتى الهند استباحت سجلات المكالمات الهاتفية ولقطات كاميرات المراقبة لتعقب الأشخاص الذين ربما كانوا على اتصال بمرضى «كوفيد ـ 19».
وعلى الرغم من الفوائد التى تتبناها هذه التطبيقات، إلا أن اعتماد بعض الدول الأوروبية عليها أثار الكثير من الجدل وربما الانقسام, ففى فرنسا, تلك الدولة التى تُقدر الحرية الشخصية والخصوصية لأفرادها بشكل كبير, احتدم فيها النقاش وساد انقسام حاد بمجرد إعلان الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون عزم حكومته تبنى استخدام تطبيق «trace together»،المتبع فى سنغافورة مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة عليه, وذلك فى محاولة لتجنب فرض المزيد من الإغلاق الصارم الذى شهدته البلاد على مدار الشهرين الماضيين, وهو انقسام أجبر إدوارد فيليب رئيس الوزراء الفرنسي, لاحقا على التصريح بالقول إن الحكومة قررت السماح للمشرعين بالتصويت على خطتها لإطلاق التطبيق, حيث جاء الانعطاف الحكومى بعد انتقادات متزايدة من أعضاء البرلمان، بما فى ذلك نواب من حزب الرئيس ماكرون نفسه, الذين رأوا أن قرار عدم السماح بالتصويت «سيقوض الشرعية الديمقراطية للتطبيق». النسخة الفرنسية من التطبيق, والتى يأمل المسئولون أن يتم إطلاقها فى منتصف مايو,تدعيstopcovid،وتقوم ببساطة علي استخدام تقنية «بلوتوث» للمساعدة فى تتبع جهات الاتصال الأخيرة للشخص لتنبيههم تلقائيا بإصابة المستخدم, ولن يقوم التطبيق بتتبع مواقعهم أو تحركاتهم, ولن يتم توفير قائمة جهات الاتصال الأخيرة للحكومة على الإطلاق.
المؤيدون يدافعون
أولئك الذين يجادلون بالسماح باستخدام «التتبع الرقمي» يعزون ذلك بالقول إن اتخاذ مثل هذه الإجراءات التى قد تبدو «غريبة» على الثقافة الفرنسية, إلا أنها باتت ضرورة ملحة الآن خاصة فى ظل ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات فى البلاد وتمديد الإغلاق حتى 11 مايو الحالى, فهم يرون أن الوقت قد حان لهذه الثقافة أن تتغير جنبا إلى جنب مع الديمقراطيات الغربية الأخري, فمع التركيز المطلق للديمقراطيات الليبرالية الغربية على «الحرية الشخصية والخصوصية», بات ينظر إليها على أنها غير مهيأة للاستجابة لحالات مثل الإرهاب أو الأوبئة, وفي مثل هذه الحالات الطارئة يحتاج المجتمع إلى التكيف أكثر من أى وقت مضى من أجل إعادة فتح المجتمعات وتدوير عجلة الاقتصاد مرة أخري, وفى سبيل ذلك أصبح من المنصف اختراق خصوصية الأشخاص المصابين بدلا من منع حرية المجتمع ككل!, وهذا ما اقترحه جيل بابين, نائب رئيس المجلس الرقمى الفرنسي, وهى لجنة تقدم المشورة للحكومة الفرنسية, حيث قال إن فرنسا استطاعت التخلى عن أكبر حرية أساسية تتمتع بها ألا وهى حرية الحركة, فمن وجهة نظر بابين هناك المزيد الذى يجب أن تتعلمه فرنسا من الديمقراطيات الآسيوية مثل كوريا الجنوبية التى ساعدها استخدام التتبع الرقمى «المتطفل» على تجنب فرض نوع من الإغلاق الصارم, قائلا:«حرية الجميع تتأثر, وعلينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت خصوصية شخص ما أكثر أهمية من حياة عائلة أو أشخاص آخرين»!.
المعارضون متخوفون
فى ذهن دعاة الخصوصية العديد من الأسئلة التى يحتاجون إلى اجابات لها, أولها بالطبع كيفية استخدام الحكومات لهذه البيانات, وكيف يتم تخزينها, وما مدى أن تحافظ السلطات على مستويات عالية من المراقبة حتى بعد انتهاء جائحة الفيروس التاجي؟ وهى أسئلة مشروعة خاصة أن التفاصيل بشأن هذه التطبيقات نادرة ومخاوف الخصوصية كثيرة, فقد نشرت كوريا الجنوبية معلومات تفصيلية عن الأفراد المصابين - متضمنة تحركاتهم الأخيرة - يمكن رؤيتها من خلال تطبيقات متعددة ترسل تنبيهات إلى المستخدمين فى محيطهم عن طريق رسائل نصية تقول: «كانت هناك امرأة تبلغ من العمر 60 عاما إيجابية لكوفيد ـ 19, انقر هنا لمزيد من المعلومات حول مسارها»!!
الباحث القانونى فى جامعة يوهانس جوتنبرج الألمانية, سيباستيان جولا، يقول إنه يمكن للحكومة أن تجبر شركات التكنولوجيا على مشاركة بيانات الموقع عن شخص ما إذا كان ذلك لصالح الأمن القومي, لكنه يقول إن «التتبع الجماعى العشوائي» للأفراد يفتقر إلى الأساس القانوني, حيث يحظر جمع البيانات فى دول الاتحاد الأوروبى بسبب اللائحة العامة للحماية التى تحكم معالجة البيانات الشخصية, لذلك ستحتاج هذه الدول, بما فيها فرنسا, إلي تمرير قوانين تحدد كيفية قصر جمع البيانات على مجموعة معينة من السكان، لفترة معينة، ولغرض معين.بعض المنظمات الحقوقية تقول إنه مع تزايد قدرات المراقبة قد يكون من الصعب على الحكومات تقليص حجمها أو إنهاؤها بانتهاء الجائحة, فقد أثار ألبرت فوكس كان، المدير التنفيذي لمشروع مراقبة تكنولوجيا المراقبة، وهى مجموعة مناصرة غير ربحية، هذا القلق فى تصريح لموقع «سى إن بى سي» وأشار إلى أن القانون الوطنى الأمريكى الذى تم التوقيع عليه بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية بمنح الحكومة الفيدرالية سلطات مراقبة واسعة النطاق لمساعدة جهودها في مكافحة الإرهاب, والذى كان من المقرر أن ينتهى فى عام 2005، تم تجديده فى وقت سابق من هذا الشهر!
علاوة على ذلك, يشعر الخبراء بالقلق من أن أدوات المراقبة مثل بيانات موقع الشخص التى تستخدم, فى بعض الأنظمة الشمولية، لتعقب خصم سياسى ومعرفة تفاصيل تحركاته، لذلك هناك حاجة إلى عدد من الضمانات.
بالإضافة إلى ما سبق فإن فاعلية هذه التطبيقات تتوقف على عدة عوامل, أولها بالطبع ضمان استخدام عدد كاف من الأشخاص لهذا التطبيق, ففى سنغافورة، قام حوالى 20% فقط من الأشخاص بتنزيل التطبيق، بينما يقول المسئولون إن ثلاثة أرباع السكان يحتاجون إلى استخدام التطبيق حتى يكون فعالا! وبالنسبة لفرنسا، يعد ذلك مؤشرا غير جيد, خاصة بعد تصريح وزير الداخلية الفرنسى كريستوف كاستانير, بأن تنزيل التطبيق سيكون «طوعيا», فمن المعروف أن الشعب الفرنسى حذر بطبيعته تجاه التكنولوجيا, بالمقارنة بشعوب آسيا, ورغم استطلاع الرأى الذى أجرى مؤخرا وأشار إلى أن ثمانية من كل عشرة فرنسيين قالوا إنهم سيكونون على استعداد لتنزيل التطبيق, لكن الخبراء يعتقدون أن أعداد المستخدمين الفعليين ستكون أقل من ذلك بكثير, كما أن العديد من كبار السن - الذين هم من بين الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس التاجى - ليس لديهم هواتف ذكية من الأساس!.
رابط دائم: