يواصل محمد الفخرانى فى روايته الجديدة «أراك فى الجنة»، الصادرة أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية، طرح أسئلته حول مصير الإنسانية، عبر استخدام تيمة «الرحلة» التى استخدمها من قبل فى روايتيه «ألف جناح للعالم»، و«مزاج حر»، كأنه يشير بطرف خفى إلى أن الرحلة بهذه الرواية ليست إلا استكمالاً للرحلة فى الروايتين السابقتين، ومحاولة للإجابة على الأسئلة التى طرحها فيهما من قبل.
تحضر الروايتان السابقتان هنا بأكثر من صورة، مرة بذكر تفاصيلهما بصورة مباشرة، مثل وجود مقهى يلتقى فيه بطلا الرواية اسمه «مزاج حر»، أو حتى ظهور إحدى بطلاتها «البنت السمكة»، أو حتى بشعور القارئ أن البطل يواصل هنا تجواله، ويكمله من النقطة التى وقف فيها فى الرواية السابقة، وهى الجنة. ومرة تحضر الروايتان بإعادة طرح أسئلتهما الرئيسية والبحث عن إجابات مختلفة لها، ولا سيما تلك المتعلقة بالإنسان، والحب فـ «من أحب نجا» كما يقول فى روايته الأولي، والحب هو الذى ينقذ بطل الرواية الجديدة.
أبطال الروايات الثلاث جوّالون، كل بطريقته، ينطلقون فى رحلات بحثا عن شيء ما، فى «ألف جناح» رحلة فى المشاعر للبحث عن القلب/ الحب، وفى «مزاج حر»، جولة فى العقل، فى العوالم التى أوصلها الإنسان، للتعرف على شخصيات حقيقية وأسطورية أسهمت فى تكوين هذا العقل، فى الرواية الجديدة، نحن إزاء رحلة للبحث عن أصل الإنسان، الذى يعتبره الفخراني، «أجمل فكرة فى العالم» كما يكرر فى روايته، عن طريق «تخيل» التى تمثل القلب، و«نقار الخشب» الذى يمثل العقل المتشكك الرافض للإيمان.
هنا يواصل الفخرانى خلق عالم متخيل بالكامل، لم يُكتب من قبل، يوجد جميع تفاصيله وشخوصه، مستخدماً أدوات الطبيعة الأولى والبسيطة، من موسيقى وطيور وشجر وألوان وماء وتراب. يقوم السرد على خطين متوازيين: خط «أرضي»، يرصد تطور علاقة الفتاة «تخيّل» بـالكاتب «نقار الخشب» بما فيها من أسئلة وأجوبة حول الإيمان والإلحاد والحياة والموت والبعث والمرض، دون أن يسقط فى فخ الفلسفة الجامدة أو يُفلت خط السرد الشيّق، عبر فصول قصيرة متقاطعة، مع الخط الثانى «سماوي» يرصد خلاله رحلة «نقار الخشب» فى الجنة والنار، طارحاً الأسئلة التى جاء محمّلاً بها من الأرض وصولاً إلى لقاء الإله، فى مشهد يقترب من الميثولوجيا الإغريقية، لكنه أكثر إلصاقا بالتراث العربى الإسلامي.
يستفيد الراوى من الميثولوجيا الدينية، فيرى القارئ مشاهد مرّت عليه، فى وصف الجنة والنار فى النصوص الدينية، لكن الفخرانى هنا يعيد تشكيلها، ويمنحها بعدا إنسانيا، وأسطوريا، بل ينزع عنها الغطاء الدينى ليقدمها بشكل فانتازى محمّل بأسئلته الملّحة. هى ليست رواية عن الإيمان والإلحاد، وليست رواية عن الجنة والنار، بل هى رواية عن الإنسان، تنتصر للإنسان، لفكرته «أجمل فكرة فى العالم»، لحقه فى الوصول لأجوبة الأسئلة الشائكة، لرحلته مع تلك الأسئلة، لإكمال القصة حتى يعرف الإجابة، لأنه كما تقول «تخيل»، «أنت لا تعرف الحكاية كاملة».
يمنح الفخرانى بطليه اسمين وهميين، لكنهما كافيان لسبر أغوار الشخصيتين، فاسم «تخيل» لمدرّسة العلوم المؤمنة، التى تحمل «دفترا للأسئلة»، ويصفها الكاتب بأنها «وصلت للإيمان بعد كثير من الأسئلة»، كأن طرح السؤال هنا شرط للإيمان، كأنه حض على التفكير، ومن هنا جاء اسمها «تخيل»، الذى ينتصر للخيال ولإعمال العقل، بينما يأتى اسم «نقار الخشب»، كانه تركيز فى نقطة واحدة وتكرار لها، كما يفعل طائر نقّار الخشب حين يحفر شجرة، كإنه دفن للرأس فى الرمال، كانه رأس ينظر فى اتجاه واحد، ويرفض أن ينظر حوله ليرى «بقية القصة» كأنه كما وصفته تخيل «يريد إجابة واحدة حاسمة»، رغم أن الأسئلة تحتمل إجابات عدة. ومن هنا بدا بطلا الرواية على النقيض، أحدهما يعبر عن السؤال، والآخر يعبر عن الإجابة، ولهذا أيضاً بدا وكأنهما يكملان بعضهما.
يعيدنا هذا إلى رواية الفخرانى «ألف جناح للعالم»، التى يصدرها بقوله «الإجابات أسئلة متنكرة»، وهى أدق العبارات التى يمكن أن تصف «نقار الخشب»، فلم يكن شكه، وأجوبته الثابتة والواحدة سوى «أسئلة حقيقية» مُلِحّة. لم يكن إيمانه بالإنسان ثم كفره به ثم إيمانه، إلا الرحلة الحقيقية التى قادته للإيمان عموما. يختم الفخرانى روايته السابقة «مزاج حر»، التى تحكى عن كاتب يتجول فى الزمان والمكان والخيال، بجولة فى الجنة، فى «مكتبة الجنة الكبري»، يمكن القول إن روايته الجديدة جاءت امتدادا لهذا المشهد، لكن ما أظنه أن «فكرة الجنة» التى طرحها الفخرانى فى روايته السابقة واستكملها فى روايته الجديدة، هى تلك التى نصل إليها بالمعرفة، بالسؤال، وبالبحث.
يمكن القول إن رواية «أراك فى الجنة»، هى ختام ثلاثية «التجوال»، الرحلة التى بدأها الفخرانى فى «ألف جناح للعالم» بقوله «لا تفقد شغفك»، ليصل به هذا الشغف فى جولة امتدت وتنوعت فى ثلاثة نصوص متميزة ومختلفة إلى الإيمان بأن «الإنسان أجمل فكرة فى العالم»، كما يبدأ وينهى روايته الجديدة.
رابط دائم: