ما بين مشاعر الارتياح التى كان فلاديمير بوتين أعرب عنها فى مستهل فترة استعداد روسيا لمواجهة «فيروس كورونا»، والعودة الى الاعتراف بأن «القادم أسوأ» ولم يكن مضى على اندلاع الأزمة أكثر من أسابيع معدودات، عادت موسكو إلى تبنى إجراءات أكثر تشددا لمواجهة الأزمة، فى محاولة للحيلولة دون تفاقم الموقف وإفلات السيطرة عليه بعد تصاعد نسب الوفيات والإصابات فى موسكو بدرجة غير مسبوقة. وها هى السلطات المحلية فى موسكو تتراجع عن تفاؤلها لتعلن عن إغلاق العاصمة، وما هو أقرب إلى حظر التجوال فيها وتقنن «التصاريح الرقمية»، التى جعلت المدينة تعيش ما هو أشبه بحالة الحرب، فيما تخلو شوارعها من المارة وإلا ما ندر من السيارات.
بعد فترة من التفاؤل لم تدم طويلا، عادت السلطات الرسمية الروسية لتفرض أشد الإجراءات قسوة منذ اندلاع «وباء كورونا» مع مطلع مارس الماضى فى روسيا. وكانت أرقام الضحايا من إصابات ووفيات تتصاعد على استحياء طيلة الشهر الماضى، ما أضفى على الاجراءات التى راحت تتخذها «اللجنة الحكومية لمواجهة الأزمة» قدرا من التساهل والتهاون، حتى حَلًت الكارثة التى دفعت الرئيس بوتين إلى مد فترة «الإجازة الإجبارية» حتى مطلع مايو المقبل، فى نفس الوقت الذى شهدت فيه موسكو وبعض الأقاليم الروسية نوعا من الارتباك الذى تمثل فى «إدانة» السلطات الفيدرالية المركزية قرار إغلاق حدود بعض الجمهوريات والمقاطعات، لتعود سلطات العاصمة موسكو لتتبنى «مُرغمةً» ذات القرار، وتفرض ما لم تشهده المدينة من إجراءات غير مسبوقة، ربما منذ سنوات الحرب العالمية الثانية. ولعل ما اصطدم به سكان العاصمة وضيوفها يوم الأربعاء الماضى (15 ابريل) من فوضى وارتباك أمام مداخل المترو، وتكدس طوابير السيارات لمسافة تمتد إلى عدة كيلومترات عند مداخل العاصمة، كان بمثابة «جرس إنذار» يحذر من احتمالات الانفجار وما دفع سلطات المدينة، وربما بتعليمات مباشرة من بوتين، إلى العودة عن بعض التشدد الذى كانت افتقدته روسيا «عن عمد» خلال الأسابيع الأولى من مارس الماضى. وكانت المدينة قد شهدت طوابير طويلة من المواطنين اصطفت على مسافات متباعدة أمام مداخل مترو الانفاق، لتتحول فى لحظات إلى «زحام هائل» لا ضابط له عند أبواب الدخول، فى نفس الوقت الذى شهد ازدحام السيارات عند مداخل المدينة ونقاط التفتيش ومراجعة «التصاريح الرقمية» التى جرى صرفها فى وقت سابق للحركة داخل المدينة، ما أثار موجة هائلة من السخط والغضب، ثمة من يقول إنه استدعى تدخل سلطات الكرملين. وها هم سكان المدينة يستكينون لضغوط التعليمات، ووطأة القرارات المدعومة بسطوة الغرامات المالية التى تتصاعد إلى ما فوق طاقة المواطن، لتستعيد الحركة فيها، كثيرا من «الانضباط» الذى افتقدته وكانت فى امس الحاجة إليه خلال الشهرين الماضيين. وجاء ذلك مواكبا لاستمرار السلطات الطبية فى العاصمة فى اجراءات «اختبارات الإصابة» التى تجاوزت خلال الأيام القليلة الماضية حد المليونى مواطن، فى توقيت تشهد فيه موسكو تحويل العديد من المستشفيات والتى بلغ عددها 37 مستشفى لتوفير ما يزيد على 21 ألف سرير لاستقبال المصابين الذين تتزايد اعدادهم يوما بعد يوم، فيما تقترب من موعد افتتاح أكبر مركز طبى علاجى فى روسيا جرى بناؤه على عجل فى ضواحى العاصمة، وبما تفوق طاقاته وحسب تصريحات عمدة العاصمة ما يتجاوز أى انفجار محتمل فى أعداد المصابين. وأضاف سوبيانين :«توقعنا أن يحدث فى نهاية هذا الأسبوع وبداية الأسبوع المقبل ارتفاع عدد المرضى فى المستشفيات بـ3 أو 4 مرات، لكن ذلك لم يحدث»، فيما أكد أنه لا يزال بالامكان الدفع بما يقرب من خمسة آلاف سرير إضافى حال تطلبت الضرورة ذلك.
رغم ذلك تواصل المصادر الرسمية الروسية الاعتراف بأن الأوضاع الخاصة بانتشار «وباء كورونا» تظل بالغة الحرج، وأنها لم تصل بعد إلى مستوى الذروة، بما يعنى وعلى حد قول الرئيس فلاديمير بوتين ان «القادم اسوأ»، فيما كشفت مصادر غرفة العمليات الخاصة بمكافحة الوباء عن أن تزايد الإصابات فى روسيا بنسبة مطردة بلغت فى بعض أيام الأسبوع الماضى ما يزيد على 16%. وأعلنت المصادر أن موسكو تظل تتصدر قائمة أكثر المناطق التى انتشر فيها «فيروس كورونا»، بأعداد مطردة تتزايد يوما بعد يوم «بسرعة مخيفة». وأكدت الأرقام الصادرة عن غرفة العمليات والتى تجاوزت 40 الف مصاب ،ان أعمار النسبة الأكبر من المصابين (43%) تترواح بين 18-45 عاما، بينما بلغت أعمار نسبة 37% من المصابين بين 46-65 عاما، و11% بين 66-80 عاما ، وما فوق 80 عاما 4%، بينما بلغت نسبة الأطفال 5%. ومن اللافت أن ما يزيد على سبعة آلاف من المصابين بفيروس «كورونا» فى موسكو تجرى متابعة إصاباتهم «منزليا» حسب تصريحات أنستاسيا راكوفا نائبة عمدة العاصمة. واعترفت راكوفا بان إهمال سكان موسكو أسهم وإلى حد كبير فى تفاقم وتدهور الاوضاع فى العاصمة التى تصاعدت فيها أعداد المصابين الى ما يزيد على الاربعة آلاف فى اليوم الواحد خلال الايام القليلة الماضية، بينما تظل موسكو صاحبة «الحظ الأوفر» بين المصابين بنسبة تبلغ ما يزيد على 60% من أعداد المصابين والوفيات فى كل روسيا الاتحادية. وعزت تصعيد إجراءات التشدد اعتبارا من 14 أبريل إلى ما وصفته بـ «تسيب وإهمال» سكان العاصمة وتراجعهم عما التزموا به خلال الأسابيع الأولى لاندلاع الأزمة من البقاء فى مساكنهم والتقيد بإجراءات «العزل الذاتي». ولعل ذلك أيضا ما دفع الرئيس بوتين إلى قبول عرض نظيره الأمريكى دونالد ترامب حول تزويد روسيا بالمعدات الطبية بما فى ذلك اجهزة التنفس الصناعى ردا على ما قامت به روسيا فى وقت سابق.
ونقلت قناة «روسيا 24» الإخبارية الرسمية تصريحات خبراء مركز مكافحة الأمراض والوقاية ومنظمة الصحة العالمية، أن فيروس»كورونا» ينتقل من شخص لآخر فى إطار «أربعة أمتار»، وان «الفيروس يظل معلقا فى الفضاء الجوى بما يجعله مصدر عدوى لمدة 30 دقيقة، وفى بعض الأحيان لمدة ساعتين أو 3 ساعات، ويمكن أن تصل المدة إلى عدة أيام على بعض الأسطح».
وعلى صعيد موازٍ تواصلت اجتماعات «الأزمة»، ومنها اجتماع مجلس الأمن القومى الروسى، عاد الرئيس بوتين من خلالها إلى تأكيد ضرورة حشد كل جهود الدولة من أجل التخفيف من وطأة الازمة ورفع الأعباء عن كواهل بسطاء المواطنين ومحدودى الدخل والمتقاعدين، وكذلك تقديم يد العون إلى أصحاب الصناعات الصغيرة والمتوسطة بما يحول دون تسريح العمالة وإلحاق الضرر بمستقبل هذه الصناعات. وفى هذا الإطار واصلت الدولة صرف الإعانات التى تراوحت بين مائتى دولار وبلغت حتى آلاف الدولارات للأطباء والعاملين فى قطاع الصحة والمستشفيات والمراكز الطبية الخاصة باستقبال المصابين بالفيروس القاتل. وأكد الرئيس الروسى ضرورة التزام الدولة ومؤسساتها الحكومية بهذه الأعباء حتى نهاية مايو على أقل تقدير. وحرصت السلطات الرسمية على متابعة تنفيذ البنوك والمؤسسات الرسمية القرارات التى أصدرتها اللجنة الحكومية لمواجهة الأزمة بتعليمات مباشرة من الرئيس ومنها ما يتعلق بجدولة القروض وتأجيل سداد ما يتعلق منها بالإسكان والصناعات الصغيرة والمتوسطة. وقد حظى الأطباء والعاملون فى مجال الصحة باهتمام خاص من جانب الرئيس بوتين الذى توالت قراراته تباعا لرفع رواتبهم وإقرار مكافآت خاصة للعاملين فى مستشفيات ومراكز استقبال إصابات كورونا، للدرجة التى بلغت حد توجيه وزير المالية شخصيا لمتابعة عدم تحمل هؤلاء الاطباء واطقم التمريض والخدمات الطبية، أى ضرائب عن هذه الحوافز والمكافآت. ومن الملاحظ فى هذا الصدد ما سارعت السلطات المحلية والفيدرالية باتخاذه من قرارات تقضى بتحويل كثير من المصانع الصغيرة والكبيرة إلى إنتاج مستلزمات مواجهة الوباء القاتل، بداية بصناعة أجهزة التنفس الصناعى واختبارات الفيروس، وحتى إنتاج الكمامات وسوائل التنظيف الخاصة والمستلزمات الطبية. ومن اللافت فى هذا الصدد ما كشف عنه سوبيانين عمدة العاصمة ونائب رئيس اللجنة الحكومية لمواجهة الأزمة من أنه طلب من الرئيس بوتين مساعدة عشرين من أطقم الأطباء العسكريين، التى قالت وكالة انباء «انترفاكس» نقلا عن سوبيانين إنهم من المتخصصين فى مجال «الإنعاش». وقال سيرجى شويجو وزير الدفاع الروسى إن القوات المسلحة على استعداد للدفع بخمسة وستين من أطقم أطباء الإنعاش، إلى جانب العديد من فرق أطباء اسلحة الحرب الكيماوية والبيولوجية، ممن يمكن الاستعانة بهم فى عمليات التعقيم والتطهير. وكشف وزير الدفاع الروسى عن القوات المسلحة فى سبيلها إلى الانتهاء من بناء 16 مجمعا طبيا علاجيا فى مختلف أرجاء البلاد. وفيما كشف الرئيس بوتين عن أن الأوضاع فى سبيلها إلى التراجع عن حدتها فى موسكو، وأنها بصدد الاحتدام فى الأقاليم، قال عمدة العاصمة إنه سوف يكون من المناسب الدفع بأطقم الأطباء المدعومين بخبرات وتجارب موسكو، للعمل فى الأقاليم التى سوف تكون أكثر حاجة إليها.
وفى موسكو كشفت أنا بوبوفا، رئيسة مؤسسة «روسبوتريبنادزور» ( الرقابة الروسية)، عن بدء عملية الاختبارات الشاملة الخاصة بفيروس «كورونا» اعتبارا من 14 أبريل. وكانت روسيا قد انتهت من اختبار مليون ونصف المليون مواطن وهى النسبة التى كشفت عن إصابة ما يزيد على 32 ألف مصاب. واعترفت بوبوفا فى تقريرها الذى قدمته إلى الرئيس فلاديمير بوتين عن أن 55% من 74% بؤرة أصابات فيروس الكورونا فى الأقاليم نجمت عن تفشى العدوى داخل المنشآت الطبية، وقد أضافت : إن الأجهزة المعنية تعمل بجد من أجل معالجته والحيلولة دون تكراره. أما عن العقاقير التى أثبتت فعاليتها ولا تعترض السلطات الروسية ضد امكانية الاعتماد عليها واستخدامها، قالت مصادر وزارة الصحة أنه لا توجد أى عراقيل «صيدلية» لاستخدام عقار «هيدروكسى كلوروكين». ونقلت وكالة «تاس» عن ميخائيل ميشوستين رئيس الحكومة الروسية، تعليماته التى أصدرها إلى مركز الأبحاث الطبية الوطنى «بتسليم دواء «هيدروكسى كلوروكين» من إنتاج شركة «شنغهاى فارماسيوتيكالز هولدينج» الصينية، رغم أن منظمة الصحة العالمية لم تبت بعد بشكل نهائى فى مسألة استخدامه، وقالت «بضرورة إجراء اختبارات سريرية مسجلة للتأكد من أن اعتماد هذا العقار آمن».
رابط دائم: