رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

العاشــق

محسن عبد العزيز;

عندما يدور التاريخ دورته، ويوغل الزمن فى الغياب، وتروح الأيام والدول فى دروبه البعيدة، قلائل فقط يسطعون كنجوم لا تغيب أبدًا، من هؤلاء العبقرى جمال حمدان، ذلك الذى آثر الظل واعتزل الناس، لكن آثار عبقريته سطعت كفلق الصبح، بما قدم من أعمال تظل علامات على مر التاريخ.

ففى المعارك التى تحتدم والأسئلة التى تدور عن حاضر الوطن ومستقبله يكون الرجوع إلى فيلسوف المكان جمال حمدان طوق نجاة لمن يبحثون عن يقين لا يحكمه الهوى، وعقل ثاقب ورؤى استشرافية جعلته من أهم المفكرين الاستراتيجيين.

وجمال حمدان (1924 - 1993) ولد بقرية (ناى) فى محافظة القليوبية، والتحق بمدرسة شبرا، حيث كان والده مدرسا للغة العربية بنفس المدرسة، ونجح فى الثانوية العامة، وكان ترتيبه السادس على الجمهورية، ثم درس الجغرافيا فى آداب القاهرة، وحصل على الليساس بدرجة امتياز عام 1948 وأوفدته الجامعة فى بعثة إلى جامعة ريدنج ببريطانيا، حصل خلالها على زمالة الجمعية الجغرافية البريطانية، وموضوعها (سكان وسط الدلتا المصرية بين الماضى والحاضر).

وعاد إلى مصر ليقوم بتدريس جغرافيا النبات وجغرافيا السكان وجغرافيا العالم العربى لطلاب آداب القاهرة، مع كتابات ملازم لم يتعجل نشرها، وكان ذلك سبب الأزمة التى حدثت له مع الجامعة، كما يروى دكتور صبحى عبدالحكيم رئيس مجلس الشورى الأسبق فى شهادته عن جمال حمدان بعد وفاته، وكان من أقرب الأصدقاء إليه.

كانت لائحة الجامعة تشترط لحصول المدرس على درجة أستاذ مساعد وجود كتب منشورة له، ولذلك قام جمال حمدان بنشر ثلاثة كتب فى وقت واحد، وقدمها إلى لجنة الترقى، وأعلنت لجنة الترقى اختيار صفى الدين أبوالعز وجمال حمدان، لكن جمال حمدان تأثر أشد التأثر بكتابة اسم الدكتور صفى قبله، لأنه كان بالغ الثقة والاعتزاز بنفسه ومكانته.

ويرى دكتور صبحى عبدالحكيم أن هذه الأزمة لم تكن السبب الوحيد لاعتزال جمال حمدان لأنها حدثت عام 1959، بينما هو قدم استقالته عام 1961 ولم تقبل إلا عام 1963.

ربما آثر جمال حمدان العزلة والبعد عن الجامعة ومكائد الزملاء حتى يتفرغ إلى مشروعه العلمى الذى كان يحشد نفسه له بالقراءة الموسوعية والبحث الحر الدءوب، وربما كان متأثرًا فى ذلك بالعقاد مثله الأعلى بعد أن تردد على صالونه كثيرًا.

صفوة القول إن عزلة جمال حمدان كانت تماثل شخصية راهب مصرى نذر حياته للعلم، لم يحول عزلته إلى طاقة غضب أو نقمة ضد الوطن، وإنما حالة عشق لكل ذرة من ترابه، ورماله وصحاريه ووديانه ونيله وزرعه وبحره وأقاليمه، شماله وجنوبه، غربه وشرقه، وحاضره ومستقبله، أخضع كل ذلك إلى البحث المحب الدقيق الصارم، فكانت كتبه علامة عبقريته وحبه لمعشوقته مصر.

وكان أول كتبه بعد الاستقالة من الجامعة هو (المدينة العربية)، ثم (الاستعمار والتحرير) واليهود إنثروبولوجيا، وصولا إلى كتابه العمدة (شخصية مصر) الذى جاء فى لحظة ضاغطة على الوطن بعد أن غامت الرؤية وعاش الناس فى ضباب الأساطير عقب هزيمة 1967.

جاء الكتاب لينفذ إلى روح مصر يستشف مكامن عبقريتها وقوتها، مما أعاد الثقة إلى الوطن والبشر، فمصر - كما يقول فى كتابه الذى تحول إلى موسوعة - هى بالجغرافيا تقع فى إفريقيا، وتمت بالتاريخ إلى آسيا، متوسطة بعروضها، موسمية مياهها وأصولها، وهى فى الصحراء وليست منها، إنها واحة ضد صحراوية، بل ليست بواحة، وإنما شبه واحة، إنها فرعونية بالجد، عربية بالأب، بجسمها النهرى قوة بر، وسواحلها قوة بحر، أى تضع قدمًا فى الأرض، وقدمًا فى الماء، بجسمها النحيل، تبدو مخلوقًا أقوى من قوى، لكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسًا أكثر من ضخم، تقع فى الشرق، وتواجه الغرب، وتكاد تراه عبر المتوسط، تمد يدًا نحو الشمال، وآخرى نحو الجنوب، ولهذا هى قلب العالم العربى، واسطة العالم الإسلامى، وحجر الزاوية فى العالم الإفريقى، إنها سيدة الحلول الوسطى، والوسط الذهبى.

استطاع جمال حمدان بمواهبه فى الرسم والموسيقى وحبه الشعر والآدب والتاريخ أن يجعل من الجغرافيا قطعة موسيقية ولوحة تشكيلية، وقصيدة شعر من خلال اسلوبه ذى الجلال والبهاء الموسيقى والذى يعد من أجمل الأساليب فى اللغة العربية عمقا وجزالة وسلاسة ووضوحا وقوة.

ويقسم جمال حمدان تاريخ مصر إلى أربع مراحل:

صناعة الحضارة حين كانت مصر مشتلًا لتأصيل حضارة مبكرة سباقة، مادتها الخام هى فيض الثروة الفيضية، وصوبتها الزجاجية التى تحمى طفولتها هى الغلاف الصحراوى ثم مرحلة تصدير الحضارة، وتشمل العصر الفرعونى حين هيمنت الحضارة المصرية على جيرانها، وشكلت نموذجًا حضاريا تقتبس منه وتتوجه نحوه، كما تقول مارجريت مرى: فإن كل المناطق المحيطة تدين فى حضارتها إلى مصر ابتداء من الحضارة الأوروبية إلى روسيا وفارس والعرب والهند والصين أيضا.

ثم مرحلة الاكتفاء الذاتى بعد نهاية الفرعونية، وتتسم بهبوط قوة مصر السياسية، واستمرار قوتها الحضارية، وخلالها أسهمت مصر فى الحضارة الهيلينية البحر متوسطية من خلال الإسكندرية، وتأصلت فيها ملكة الامتصاص على حساب قدراتها الخلاقة، واستمرت هذه المرحلة من البطالمة إلى العصر التركى الذى أوصلها إلى الحضيض حضاريا مصابة بتصلب شرايين حضارى لم يسبق له مثيل فى تاريخها. ثم مرحلة استيراد الحضارة، وتبدأ من اقتحام الحضارة الأوروبية مصر بالحملة الفرنسية، وبعدها بدأت تخرج رويدا رويدا من شرنقة عزلتها وانتعش ميكانزم المشاركة، ولكن مصر لم تتحول من نافورة الحضارة القديمة إلى بالوعة الحضارة الجديدة لكن إلى بوتقة صهرتها بما يتفق مع تراثها تستعير لتهضم وتتمثل لا لتذوب أو تغرق.

فدور مصر الحضارى لم يختف عبر العصور وأن اختلف من عصر إلى عصر، مصر لا تشرق بضع لحظات ثم تغيب فى ليل طويل، وإنما العكس هو الصحيح، فلقد أراد لها طالعها العجيب أن تواصل عملها سبعين قرنا، وأن تترك أثرها فى كل ناحية من النواحى واضحا جليا، وخلال هذا الدور المتصل كانت إما صانعة الحضارة وإما حافظتها، وفى الجزء الأكبر من تاريخها كانت فى الصدارة أكثر منها فى الصفوف والعكس وإذا كانت الأمم التى قادت العالم حضاريًا قلة معدودة بالضرورة فمصر بالضرورة منها.

وقد ظل جمال حمدان حتى لحظة وفاته الغامضة لا يكف عن البحث فى تاريخ معشوقته مصر وحضارتها وموقعها وموضعها كأى عاشق لا يكف عن التغزل فى محبوبته.

ونحن كأبناء لهذا الوطن نود أن نرد إلى هذا العاشق بعضا من الحب والتقدير، نعلم أنه نزر يسير لا يوفيه حقه ولا قدره.. لكننا فى ذكرى وفاته التى يمر عليها 27 عامًا.. نريد أن نقول: لن ننساك ولن ننسى ما أعطيت من جهد لهذا الوطن الصامد الصابر الذى ينتصر على الشدائد مهما كانت قاسية.. هذه حكمة التاريخ وحكمة عباقرة هذا الوطن. وأنت منهم وأكثرهم نبلًا.. يرحمك الله.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق