تنطلق صافرة جهاز النداء الآلي الخاص بها مرة أخري، لا تبدي إلينور كوفمان أي امتعاض من ذلك الصوت الذي باتت تألفه جيدا لكثرة ما تردد علي آذانها في الآونة الأخيرة، فهو يعني أن الإسعاف في طريقها إلي مركز ولاية بنسلفينيا الطبي وعليها الإسراع لاستقبال المريض القادم وإسعافه علي الفور. تتحدث طبيبة الجراحة العامة إلي نفسها قائلة: إنها بالتأكيد حالة كورونا أخري، ولكن هل ستكون في مراحلها المتأخرة؟ هل سنلجأ لوضعها علي جهاز التنفس الصناعي؟ هل ستنجو في النهاية؟
وبينما تعصف الأفكار بعقلها, تهم إلينور لتحضير نفسها جيدا والتأكد من اتخاذها كافة التدابير الوقائية للحماية، فالفيروس اللعين له هيبته التي لابد أن تستعد لها جيدا وإلا كان غضبه قاتلا. ولكن النداء هذه المرة كان مختلفا، لم يكن استغاثة أحد ضحايا الفيروس الذي قض مضاجع الرؤساء وأربك حسابات الدول، بل وباء من نوع آخر بدأ يتسلل إلي آلاف العائلات في أمريكا العالقة بالفعل بسبب كوفيد 19، ألا وهو: العنف المسلح.
ليس بالشيء الجديد أو الصادم حينما نقول إن إصابات الأسلحة النارية تعد كارثة بالنسبة لأكثر من 120 ألف شخص يتم إطلاق النارعليهم كل عام في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن العواقب علي النظام الصحي تبدو أكثر خطورة الآن بينما تخوض البلاد معركتها الحامية ضد الفيروس التاجي. فبينما تمتلئ وحدات العناية المركزة بآلاف المرضي الذين يكافحون من أجل التنفس، ينظر الأطباء حولهم في حيرة متسائلين: هل يمكننا توفير سرير أو اثنين لضحايا الطلقات النارية الذين نعرف أنهم سيأتون بعد ذلك؟ ثم من سيقوم برعاية مرضي كوفيد 19 إذا توجب علينا استدعاء الأطباء إلي غرفة العمليات لتقديم المساعدة؟.
لا أحد يعرف حتي الآن مدي تأثير جائحة كورونا علي العنف المسلح في أمريكا. فوفقا لإحصاءات بعض أقسام الشرطة، انخفضت معدلات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام منذ دخول إجراءات «التباعد الاجتماعي» حيز التنفيذ، لكن الإقبال علي شراء الأسلحة النارية في ارتفاع، فبينما اصطفت أعداد كبيرة من المواطنين «المفزوعين» في محلات البقالة والسوبر ماركت لتخزين جميع أنواع المأكولات والمطهرات الضرورية وغير الضرورية، كان هناك اصطفاف من نوع آخر أمام متاجر بيع الأسلحة النارية.
وبالنسبة لآنا ديفيد كان شراء بندقية آلية بمثابة تجربة جديدة لها،فهي لم تمتلك مسدسا في حياتها من قبل، ولكن جائحة كورونا دفعتها إلي ذلك قائلة «من الأفضل أن تكون مستعدا ولا تحتاج إليه، أكثر من أن تكون بحاجة إليه ولا تملكه«! أما رالف شاريت (71 عاما) فلم يكن إنفاق مبلغ 1500 دولار علي شراء بندقية بالشيء المكلف بالنسبة له، حيث يقول «هناك الكثير من عدم اليقين والبارانويا, لكن عليك حماية منزلك». أما جون جور (39 عاما) الذي اصطف خارج أحد متاجر بيع الأسلحة في ولاية كاليفورنيا فقد صرح لصحيفة «لوس أنجلوس تايمز» قائلا: لطالما أخبرنا السياسيون والأشخاص المناهضون لامتلاك الأسلحة بأننا لسنا بحاجة إلي البنادق, لكن كثيرا من الناس خائفون حقا الآن ويمكنهم اتخاذ هذا القرار بأنفسهم.
وكشف تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية أنه في شهر مارس فقط تم بيع حوالي 1٫9 مليون بندقية آلية في جميع أنحاء البلاد، مع تضاعف المبيعات في العديد من الولايات في مارس مقارنة بشهر فبراير.ففي ولاية يوتا علي سبيل المثال، ارتفعت نسبة شراء الأسلحة النارية ثلاث مرات تقريبا. وفي ولاية ميشيجان، التي أصبحت بقعة ساخنة لكوفيد 19، زادت المبيعات فيها بأكثر من ثلاثة أضعاف ،بينما كان هناك أكثر من 120 حادث إطلاق نار في فيلادلفيا الشهر الماضي. كما شهدت مدن أخري حوادث مماثلة: ففي جورجيا ألقت الشرطة القبض علي شخص قام بتوجيه مسدسه في وجه امرأتين ترتديان كمامات وقفازات طبية خوفا من أن تنقلا العدوي إليه، بينما وجهت الشرطة في نيومكسيكو تهمة القتل الخطأ لرجل أطلق الرصاص علي ابن عمه البالغ من العمر 13 عاما بمسدس كان يحمله بغرض «الحماية» من الوباء. وفي ولاية مين، تم توجيه الاتهام لرجل ذي سابقة جنائية بحيازة سلاح ناري بشكل غير قانوني بعد أن زعم أنه يحتاجه لحماية نفسه من فيروس كورونا المستجد!
مثل هذه الحوادث وغيرها دفعت جنود «الجيش الأبيض» الأمريكي لمناشدة المواطنين بوضع أسلحتهم النارية جانبا قائلين: »واجبنا الأساسي رعاية جميع المرضي, ولكننا في خضم أزمة تتطلب منا تسخير كافة مواردنا الصحية لها. من فضلكم توقفوا عن إطلاق النار، نحن بحاجة إلي الأسرّة لعلاج مرضي كورونا!«.
في الماضي، كان التخوف من فرض قيود علي شراء الأسلحة هو المحرك الرئيسي لارتفاع مبيعاتها بشكل كبير، فقد سجلت المبيعات في يناير عام 2013، أعلي معدل ارتفاع لشراء الأسلحة النارية، بواقع مليوني بندقية، وهي الفترة التي جرت فيها انتخابات الإعادة للرئيس السابق باراك أوباما، وأيضا حادث إطلاق النار الجماعي في مدرسة ساندي هوك الإبتدائية. لكن بعد جائحة كورونا، ورغم إجراءات التباعد الاجتماعي التي قللت كثيرا من النزعات التي يمكن أن تؤدي إلي العنف، تزايدت الضغوط النفسية المصاحبة لهذا الوباء، وساهمت في زيادة العنف المجتمعي والمنزلي أيضا. كما ألقت العواقب الاقتصادية الناجمة عن الأزمة بظلالها علي الفئات الأقل دخلا أو من يتمتعون بموارد أقل، حيث من المرجح أن تعاني الأحياء والمجتمعات المعرضة بالفعل لخطر متزايد من العنف بسبب العنصرية والفقر، إلي ارتفاع ملحوظ في حوادث إطلاق النار.
فالناس بالطبع يشعرون بالخوف والقلق من تزايد أعداد الوفيات والمصابين، خاصة مع إجراءات الإغلاق الجزئية لبعض مؤسسات الدولة، وهو ما ولّد لديهم شعورا بالقلق بشأن حماية أنفسهم إذا بدأت أجهزة الدولة في التآكل، هكذا يري تيموثي ليتون، أستاذ القانون في جامعة ولاية جورجيا والخبير في شئون الصحة.
هوس اقتناء الأسلحة النارية أثار أيضا المخاوف المتعلقة بالصحة العامة ودفع المسئولين المحليين إلي مناقشة ما إذا كان يجب إغلاق متاجر الأسلحة مؤقتا لحين الانتهاء من جائحة كورونا، خاصة وأنه في الوقت نفسه يجادل المدافعون عن تدابير السلامة الأكثر صرامة بالقول إن الارتفاع «المخيف» لمبيعات الأسلحة يمكن أن يشكل تهديدا للسلامة إذا لم يصاحبه بعض الإجراءات الضرورية كتدريب المشترين علي استخدامه بشكل صحيح مثلا، أو ضرورة توافر أماكن تخزين «آمنة» للأسلحة بحيث تكون بعيدة عن متناول الأطفال، الذين قد يدفعهم الفضول لخطر استكشاف هذه الأسلحة وإصابة أنفسهم أو الآخرين.
ولكن يبدو أن الضغط من جانب القائمين علي صناعة الأسلحة النارية كانت له الكلمة العليا، حيث قالت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا إن متاجر الأسلحة تندرج تحت الأنشطة التجارية «الأساسية» ولا مانع من بقائها مفتوحة جنبا إلي جنب مع الصيدليات ومحطات الوقود ومحلات البقالة!
لقد استطاعت الإدارة الأمريكية والنظام الصحي الأمريكي بشكل عام في التغلب علي أزمات كثيرة، منها علي سبيل المثال خفض معدلات الوفيات نتيجة حوادث السيارات إلي النصف علي الرغم من زيادة أعداد السيارات بشكل كبير، فهل تنجح الآن ـ وهي في خضم معركتها الشرسة مع كورونا ـ في الحد من إصابات الأسلحة النارية؟ والإجابة في نظر بعض الخبراء هي بالطبع نعم، ولكن إذا ما توافرت الإرادة الاجتماعية والسياسية والاستراتيجيات اللازمة لتعديل قوانين الترخيص لتجار الأسلحة النارية والمشترين, بجانب برامج الردع المجتمعية المركزة.
رابط دائم: