فى أيام قليلة إزاء كارثة «كورونا» اكتشف العالم أنه من الضرورى أن يعود للإنسانية جانب الرحمة الذى افتقدته والجميع يلهث وراء مصالحه.. وكثيرة هى المبادرات داخل مصر وخارجها التى تؤكد أن الرحمة مازالت بخير، ولكم كان مشهداُ إنسانياً مؤثراً يمس شغاف القلوب لإيطاليين يقفون فى شرفات منازلهم وهم يحتفلون بعيد ميلاد طفلة وقفت مع أسرتها فى شرفة منزلهم، والجميع يغنون لها أغنية عيد الميلاد الشهيرة، ولكن للأسف فلقد أصر معدومو الضمائر على استثمار هذه الظروف العصيبة لتحقيق أكبر قدر من الأرباح ، فها هى عصابات دولية تسطو على حمولة باخرتين كانتا تحملان مستلزمات طبية ومطهرات كمعونة للبلدان الأكثر تضرراً من تفشى الفيروس، وفى مصر ضبطت الرقابة الإدارية تجارا وأصحاب صيدليات قاموا بتخزين المستلزمات الطبية لبيعها بالسوق السوداء, بالإضافة إلى ضبط كميات هائلة من المطهرات المغشوشة . أما ثالثة الأثافى فهى ضبط مسئول بصحة دمياط يختلس مستلزمات لمكافحة كورونا تقدر قيمتها بمليون جنيه وبيعها لحسابه فى السوق السوداء.
لم يكن التعامل مع الكارثة من منظور البيزنس مقصوراً على الأفراد ولكنه انسحب إلى الدول وبدلاً من أن يتعاون الجميع من أجل التوصل إلى عقار ومصل للعلاج والوقاية من فيروس كورونا راح كل فريق بحثى من بين 30 فريقاً يسابق الزمن من أجل أن يكون له قصب السبق وما يعنيه ذلك من تحقيق أرباح خيالية فلكية الأرقام فضلاً عن الحصول على « جائزة نوبل».. أنظر إلى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وهو يتصرف كعادته كرجل أعمال لا يهمه إلا تحقيق أكبر ربح فيعرض على شركة أدوية ألمانية ـ قيل إنها على وشك التوصل إلى عقار لعلاج والوقاية من كورونا ـ مبالغ طائلة لشراء حق الملكية الفكرية لكى يكون النجاح أمريكياً وحصد مليارات الدولارات لأمريكا، فيرد عليه وزير خارجية ألمانيا غاضباً: ألمانيا ليست للبيع .
لقد صار تحقيق المكسب شعاراً وسعاراً حتى وإن رئيس صربيا أعلن أن من يتغطى بالاتحاد الأوروبى فهو عريان ، كما وجه الايطاليون رسائل إلى زعماء أوروبا مفادها: شكراً لكم لأنكم تخليتم عنا وقت الشدة، وهكذا نجد أن السباق الآن على جنى الأرباح لمن ينجح فى انتاج لقاح واقٍ ضد الفيروس، وللأسف لم يطرح أحد فكرة الحفاظ على البشر وإقامة نظام عالمى أكثر عدلاً ومساواة ولاسيما أن الإحصاءات تؤكد أن 1% فقط من سكان العالم يمتلكون حالياً نصف ثروة العالم المالية.
إن كورونا لم يفرق بين المليارديرات والفقراء، فهل يستوعب الجميع الدرس، فتستقيم الأمور، ويبزغ الخير ويستعيد الإنسان انسانيته ويدرك أن الأمان والصحة والخروج من محنة هذه الكارثة أهم بكثير من تكديس الثروات وترسانات الأسلحة، فتقل حدة الصراعات مع إبداء قدر أكبر من المرونة لحلها وزيادة التعاون الدولى فى مجال البحث العلمى والحد من الأنانية المفرطة؟.. ولم لا وقد أكد هجوم فيروس كورونا أن الجميع فى قارب واحد وأن فى مقدوره أن يغرق القارب بكل من فيه ؟ ليت الجميع يستعيدون أحداث قصة ( الحب فى زمن الكوليرا) للأديب الحاصل على جائزة نوبل جابريل جارسيا ماركيز، وهى لحبيبين لم يستطيعا الزواج بسبب الفوارق الاجتماعية، فتفرقا ثم التقيا بعد وفاة زوج الحبيبة وهما فى سن السبعين فأخذها فى رحلة على متن إحدى بواخر الشركة التى يمتلكها، ولكى يتخلص من ركاب السفينة أعلن عند أول ميناء أن عليها مصابين بالكوليرا التى انتشرت آنذاك، ففر جميع الركاب خوفاً على حياتهم، وأخذت الباخرة تشق عباب الموج وليس على متنها إلا هو وحبيبته.
لقد استثمر بطل القصة انتشار وباء الكوليرا لكى يحقق هدفاً شخصياً محضاً.. إن النجاة الفردية لو كانت ممكنة فى القرن التاسع عشر زمن كتابة قصة (الحب فى زمن الكوليرا) فإنها – أى النجاة الفردية- بالقطع مستحيلة فى زمن الكورونا، ذلك لأن الجميع فى قارب واحد شاءوا أم أبوا، ويتطلب زمن الكورونا مزيداً من الإنسانية والرحمة، وأن يستعيد الإنسان إنسانيته ويدرك أن انسانيتنا هى قدرنا المشترك.
د. محمد محمود يوسف
أستاذ بزراعة الإسكندرية
رابط دائم: