رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تليفون بقرص

** طارق فهمى حسين**

أثناء إحدى جولاته الإجبارية، سائقًا ومُرافقًا لزوجته وأبنائه، فى أحد «المولات» الحديثة ذات الواجهات الزُّجاجية اللامعة والداخل الرحب المُكيف والسلالم الكهربائية المُتحركة، دفعه السأم المُعتاد إلى الانفصال عن صحبته العائلية فى جولتهم المُتباطئة ووقفاتهم المُفرطة فى التفحص مطولًا أمام كُل واجهة محل وداخله أيضًا وكأن اليوم لا نهاية له ولا حدود لعدد ساعاته!

انفصل عن قافلته الصغيرة على وعد بلقاء فى موعد محدد فى مكان محدد من «المول»؛ لينطلق مُمارسًا هوايته المُفضلة فى التجول بلا هدف، واضعًا كامل كفيه فى جيبيه، مُتظاهرًا باللا شيء فى هذه الحياة برُمتها يعنيه أو يشغله أو يُعكر له بالًا، ولعل هذه أكبر كذبة يحاول من آن لآخر أن يكذبها على نفسه؛ إذ يعلم تمامًا أنه ذلك الشخص الذى لا يتوقف لحظة على مدار ساعات يومه، فى اليقظة والنوم على السواء، عن الانشغال بكُل ما يدخُل فى دائرة علمه ووعيه بالحياة الدائرة من حوله، بدءًا من محاولاته تحاشى دهس النمل بحذائه أثناء مشيه بالشوارع، وحتى هواجس واحتمالات الفناء النووى! مرورًا بكُل مُفردات الحياة اليومية، خاصة فى مدينة كهذه التى وجد نفسه عالقًا بها على مدار عقود ولا يجد إلى الفكاك منها من سبيل... لماذا يلقون بالقمامة من نوافذ البيوت والسيارات؟ لماذا يسير المُشاة فى نهر الطريق؟ ولماذا لا يوجد رصيف صالح وخالٍ للمشي؟ لماذا لا تسير السيارات فى الحارات المُخصصة كما فى كُل مُدن العالم؟ لماذا يرتشى الموظف الصغير والكبير؟ لماذا لا يحظى قانون واحد بالتطبيق؟ لماذا يخاف المرءوس رئيسه؟ ولماذا يُنافقه؟ لماذا يضيق الرؤساء بالنقد؟ لماذا يكسب القُبح كُل يوم أرضًا جديدة؟ لماذا يتراجع الجمال مدحورًا؟ لماذا هُناك فُقراء حتى النوم بل الموت فى الشوارع، وأغنياء حتى التُّخمة والإنفاق الفاجر؟ لماذا ينهزم الحُب الأول فى أغلب الأحوال؟ ولماذا بعد أن يموت الآباء والأمهات نكتشف أننا لم نُخبرهم كم نُحبهم وكم نشعر تجاههم بالعرفان، ولم نسألهم عن كُل ما نُريد أن نعرف؟ لماذا لم يكُن الوقت كافيًا لمزيد من القُبلات والأحضان؟ ولماذا يقولون: ليس كُل ما يتمناه المرء يُدركه؟ لماذا؟ هه؟ ومن ذا الذى سيُضار إذا أدرك المرء كُل ما يتمناه؟ هه؟

- يا أُستاذ، ده سلم النزول، إنت بتحاول تطلع على سلم النزول.

- عفوًا، أصلى سرحت شوية...

فشلت إذن هذه المرة أيضًا فى محاولة مُمارسة شيء من خلو البال، لا بأس، فلتحاول الانشغال بتأمل الناس مثلًا، لا لا دعك من هذا؛ فهو أقصر السبل للسقوط فى نفس الدائرة... دعنا إذن نتأمل واجهات المحال والبضائع المعروضة، هكذا أفضل بالتأكيد...

مضى صاحبنا فى خطوات مُتسكعة، وكفاه فى مكمنيهما فى جيبيه، مُتأملًا واجهات المحال مُحتفظًا بحد أدنى من المُبالاة، يساعده على ذلك عدم وضع أى أسعار على البضائع المعروضة، مما يجنبه المزيد من التفكير والانشغال وكذا الاستفزاز. مضت رحلة التسكع على نحو طيب، بل وبدأ الأمر يغدو مُمتعًا؛ خاصة حين وقعت عيناه على محل للهدايا والأنتيكات وقد ازدحمت واجهة العرض فيه بعدد كبير من المعروضات الجميلة والمُثيرة للاهتمام، مما أغرى صاحبنا على غير عادته بالدخول إلى المحل، ليستزيد مما يحوى من معروضات، استقبله بائع شاب نحيل ذو ملامح نوبية أصيلة، وببشاشة شديدة رحب به وسأله عما إذا كان يبحث عن شيء بعينه حتى يساعده، وما إن هم بالتوضيح أنه إنما يتفرج فحسب حتى وقعت عيناه فى أحد الأركان على عدة تليفون من طراز قديم للغاية، حتى إنه أقدم مما عاصر من موديلات فى طفولته؛ إذ إنه ليس من النوع ذى القُرص الدوَّار فحسب، وإنما ذو قاعدة عريضة شبه دائرية يتوسطها قرص الأرقام الدوار العتيد، وعنق طويل فى نهايته العلوية حمالة نحاسية للسماعة المصنوعة من الخشب كجسم التليفون، وفى طرفيها سماعة وميكروفون من النحاس.

أعجبه للغاية شكل هذه التحفة القديمة، لكن دهشته كانت بالغة حين أخبره البائع الشاب بأن التليفون حقيقى ويعمل بكفاءة!

خرج من محل الأنتيكات مُبتهجًا وقد ضحى بمُتعة وضع كفيه فى جيبيه، حاملًا بعناية كيسًا يحوى صندوقًا من الكرتون بداخله عدة التليفون ذات القُرص. فى الموعد والمكان المُتفق عليهما التقى الزوجة والأولاد ببشاشة غير مُعتادة، وما إن وقعت عينا الزوجة على ما يحمله فى يديه حتى تبسمت؛ إذ أدركت بحُكم العشرة الطويلة سبب بشاشته، فهو دائمًا ما يفرح كالأطفال حين يشترى شيئًا جديدًا، خاصة إذا كان أحد تلك الأشياء الغريبة والطريفة التى تجذبه بشدة.

ما إن وصلوا إلى البيت حتى توجه إلى أقرب طاولة، ووضع عليها الصندوق، وأخرج «عدة التليفون» بعناية وسط فضول ودهشة الزوجة والأولاد المُتحلقين حوله..

- إيه ده يا بابا؟

سبقته زوجته فى إجابة الابن:

- تليفون يا حبيبى.

- شكله غريب جداً! بيشتغل إزاى؟

- حالًا حَ افرَّجكم.

بحماس شديد تُخالطه نشوة كبيرة، حمل الأب عدة التليفون ذات القُرص، وتوجه إلى أقرب جهاز تليفون فى البيت فنزع فيشته من الحائط، وأمسك بسلك العدة ذات القُرص ليوصلها بالمصدر، لكنه فوجئ بأن نوعية فيشة التليفون لا تتوافق مع فيشة المصدر، مضى مُتعجلًا يجوب البيت باحثًا عن فيشة تتوافق مع التليفون الجديد / القديم فلم يجد، فأُسقط فى يده وجلس على أقرب كُرسى مُحبطًا للحظة قصيرة، ثُم هب واقفًا واتجه نحو باب الشقة، لحقت به زوجته مُتسائلة:

- رايح فين؟

- حَ انزل أدور على «فيشة» تتوافق مع التليفون الجديد، قصدى القديم ده.

- الوقت متأخر ومش حَ تلاقى حد فاتح دلوقت، الصباح رباح.

نظر إلى ساعة الحائط فأدرك أن زوجته مُحقةٌ فيما تقول، فعاد للجلوس على أقرب كُرسى مُحتضنًا تليفونه وإحباطه معًا.



فى صباح اليوم التالى استيقظ مُبكرًا جدًّا على غير عادته فى أيام الجُمَع والعُطلات، وأخذ يعد الساعات والدقائق حتى استيقظ أهل البيت، فنظرت إليه زوجته وقد فوجئت به فى كامل ثيابه مُستعدًّا للنزول!

- لابس وجاهز من بدرى كده ليه؟

- حَ انزل أجيب فيشة للتليفون.

فنظرت إليه بحُب، وقالت ضاحكة:

- عُمرك ما حَ تتغير، لما تجيب حاجة جديدة من حاجاتك دى تبقى عامل زى الطفل الصُّغير وعايز تجربها فورًا.

- وده غلط فى إيه؟

- لأ خالص، بالعكس. ربنا يفرحك كده على طول. طيب حَ تنزل دلوقت والا تستنى لما نفطر وننزل كُلنا؟

- كُلنا؟ ليه؟ دى فيشة تليفون!

- هههه، إنت نسيت والا إيه؟ إحنا مش رايحين نتغدى عند ماما النهارده؟

- آه صحيح، بس معلش، أنا حَ اوَّصَّلكم وأرجع عشان ورايا حاجات، واعتذرى لوالدتك بأى حاجة.

- حاجات، حاجات إيه؟ التليفون أبو قُرص طبعًا، حَ تشغله وتجيب عاطف وسيف صحابك تفرجهُم عليه طبعًا. ما علينا، طيب أحضر لكم غدا قبل ما ننزل؟

- لأ مش مُهم خالص، حَ اطلُب أكل من برة.

- بالتليفون الجديد طبعًا.. ههههه.

- المُهم استعجلى الولاد والبسوا بسُرعة، وابقوا افطروا عند والدِتك عشان الوقت.

**

عاد إلى البيت سريعًا حاملًا «الفيشة» المطلوبة، وبعد أن قام بتركيبها فى التليفون الجديد ووضع فيشته، جلس مُتحمسًا واضعًا التليفون فى حجره، ورفع السماعة إلى أذنه فأتاه صوت الحرارة، فبدأ فى إدارة القُرص طالبًا رقم صديقه سيف، والغريب أنه فوجئ وهو يُدير الرقم الثامن والأخير بأنه لا شعوريًّا قد علق إصبعه بالرقم لثوانٍ قبل أن يترُك القُرص ليعود تلقائيًّا إلى وضعه، هذه الحركة الشهيرة التى كان الكُل يقومون بها فى نهايات زمن القُرص الدوار للتليفون حتى يتحققوا من تجميع الرقم الصحيح الذى يتصلون به فى ظل فوضى خطوط التليفون فى ذلك الزمن.



- أيوه، سيف، إزيك، إنت عارف أنا بكلمك من إيه؟ من تليفون بقُرص، آه والله، جبته امبارح، حَ ستناك، وكلم عاطف وهاته معاك. عاوز منك بس تتصل بيا دلوقت عشان أسمع رنته زى زمان… ياه، سلام.

بعد ثوانٍ اتصل سيف بالفعل، لكن صوت الجرس أتى كإحدى نغمات الموبايل وتليفونات المنازل الحديثة الرقمية؛ مما أشعره ببعض الضيق والإحباط.

- أيوه يا سيف، صوت الجرس حديث جدًّا، واضح إنه تليفون جديد تم تصنيعه على الشكل القديم مش أكتر، بس عمومًا برضه شكله جميل، وتدوير القُرص حكااااية، يلَّا ما تتأخروش.

أعاد السماعة إلى موضعها وظل قابضًا على التليفون، سرح بعيدًا بفكره ثُم أتته فكرة أدهشته، تردد ثُم رفع السماعة من جديد وأدار رقمًا يعرفه جيدًا من ستة أرقام فقط، ثُم أقفل الخط بعد رنة واحدة، ثُم كرر الأمر بالاتصال بذات الرقم وإقفال الخط بعد رنة واحدة، ثم كرر الأمر مرة ثالثة وأخيرة، وجلس مُترقبًا وهو يتعجب من نفسه ومن أن الرقم ذا الستة أرقام فقط قد رن بالفعل فى المرات الثلاث!

مرّاتٌ ثلاث... ذلك السيم القديم المُتفق عليه!

لم تمُر أكثر من دقيقة حتى فاجأه رنين التليفون، لكنه هذه المرة ويا للدهشة! كان الرنين القديم التقليدى لجرس التليفون فى زمن الأرقام الستة و»العدَّة» ذات القُرص!

رفع السماعة فأتاه صوتها الذى يعرفه جيدًا:

- أيوه، إيه يا بني؟ إنت فين؟

- آآ… أنا...

- ماجِتش ليه امبارح عند المدرسة؟ مش قُلت ماعندكش غير مُحاضرة واحدة الصُّبح ومش حَ تحضر التانية؟ خضتنى عليك.

- إمبارح؟ كُنت فى الشُّغل.

- الشُّغل؟! شُغل إيه؟ عند باباك يعنى؟

- يعنى. المُهم انتى عاملة إيه؟ أخبارك إيه؟ احكيلى وماتبطليش كلام.

أتاه صوتها هامسًا فجأة، ذلك الهمس الذى يتذكره جيدًا:

- أنا حَ اقفل عشان ماما بتفتح الباب، حَ استناك بُكرة بعد المدرسة، سلام سلام.



وضع السماعة مذهولًا وقد تسارعت نبضات قلبه، ولم يدرك كم من الوقت مر به قبل أن يستوعب ما حدث، ثُم خطر له أن يُعيد الكرة مع رقم آخر:

«910954»

- آ آ آ... آلو.

- ألو، مسرح القاهرة للعرائس.

- عم عبدالسلام؟!

- أيوه، أهلًا يا حبيبى، ما جتش مع ماما النهارده ليه؟ إيه؟ زهقت من العرض؟ حد يزهق من الليلة الكبيرة برضه؟ عمومًا من أول الأسبوع الجاى حَ نعرض: صحصح لما ينجح. طبعًا صحصح ده حبيبك المُفضل، ومش بتفَوِّت يوم عرض.

- هى... هى ماما الله يرحـم..، قصدى ماما فى مكتبها؟

- لأ يا حبيبى، هى لسه ماشية من شوية، حَ تروح الهيئة وبعدين حَ ترجع عالبيت على طول حسب ما قالت، يعنى قول ساعة بالكتير وتكون عندكم.

- طيب، مُتشكر...

وضع السماعة وهو أكثر ذهولًا، فضلًا عن نهر الدموع الذى انهمر من عينيه حتى بلل قميصه، جفف دموعه بكُم قميصه كطفلٍ صغير، حتى انقشعت غيمة الدموع، فعاود رفع السماعة بالطبع ليجرى اتصالًا جديدًا، لكنه هذه المرة سيُجرب رقمًا من خمسة أرقام فقط، تلك الأرقام التى تعود إلى زمن أقدم:

«20888»

- روز اليوسف؟ صباح الخير.

- صباح النور، حضرتك «عم فليفل»؟

- أيوه. تحت أمرك.

- ممكن أكلم... بابا؟

- مين باباك يا حبيبى من الأساتذة الصحفيين؟

- أنا شهاب ابن الأستاذ مـحمد

- أهلًا يا حبيبى، معلش ماعرفتش صوتك، اعذرنى، شُغلانة السويتش دى بتخلى الواحد دماغه بتوِش؛ طول النهار مُكالمات، إزيك وازيّ الوالدة والأمورة أُختك؟

أنا متابع رسوماتك الجميلة فى نادى الرسامين فى صباح الخير، عمك جورج البهجورى بيقول إنك حَ تبقى رسام كاريكاتير كبير، أنا سمعته بنفسى وهو نازل ع السلم مع باباك.

- يعنى أقدر أكلم بابا؟

- خليك معايا لحظة.

.......

- ألو، أيوه يا حبيبى، معلش قالولى والدك نزل من حوالى ساعة، أكيد لو مروَّح يكون وصل عندكم دلوقت.

- طيب، مُتشكر. سلام.

.........

أتاه هذه المرة عبر السماعة القديمة صوت طفل صغير:

- آلو، مين حضرتك؟

- أيوه يا حبيبى، إنت مين؟

- حضرتك اللى طالب.

- «أما صحيح غلباوى» منزل الأُستاذ محمد النجَّار؟

- أيوه، أنا ابنه، مين حضرتك؟

- ابنه ازاى بس؟! هو ماعندوش غير ابن واحد.

- ما هوَّ أنا: شهاب.

- إنت إزاى بس؟! طيب هو… هو موجود؟

- لأ، بابا خرج.

- طيب و.. ماما، قصدى والدتك؟

- خرجت معاه، طيب لما ييجى بابا أقول له إيه؟

- قول له إنى سألت عليه، قول له إنى لسه باسأل عليه وحَ فضل أسأل..

- طيب مُمكن يا عمو بقى أعرف اسم حضرتك عشان أقول لبابا لما ييجى؟

- حَ اكلمه تانى بعدين.

- لأ معلش، حضرتك اتصلت ولازم تقول اسمك علشان أبلغ بابا.

اضطر تحت إلحاح الطفل وتخلُّصًا من سماع صوته الذى سبب له إزعاجًا شديدًا أن يُجيب أخيرًا:

- أنا… شهاب محمد النجَّار.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق