مازالت الرواية قادرة على إبهار جمهور المسرح.. وسيظل كُتابها نجوما يتجدد حضورهم الطاغى بتجسيد شخصياتهم على المسرح.. فحينما أشرت إلى أن عودة مسرحية الطوق والإسورة للمؤلف يحيى الطاهر عبد الله لنيل الجوائز العربية من جديد يحيلنا إلى ضرورة الالتفات إلى أن أهمية مسرحة الرواية لم يكن من فراغ.. فهى أحد أهم روافد الكتابة التى تثرى المسرح وتمنحه بريقا وألقا خاصا جدا.. وها هم أبطال فرقة مسرح الشباب الجدد ينهلون من إبداع أديب نوبل نجيب محفوظ ليعلنوا عن مواهبهم بجرأة صارخة من خلال تجسيدهم عرض «أفراح القبة» للمخرج والمعد المتميز محمد يوسف المنصور.
ورغم أن الرواية تعد من أصعب الأعمال التى يمكن تجسيدها مسرحيا نظرا لطول أحداثها واعتمادها على تقنية تعدد الأصوات ورواية الأحداث فى كل فصل بعدة رؤى ووجهات نظر تعبر عن اصوات شخصياتها، إلا أن المخرج/المعد لم يقف مذعورا متضائلا أمامها.. بل تحدى نفسه أولا فى اجتياز هذا الاختبار الصعب لأشهر طويلة حتى وصل لهذه النتيجة المبهرة.. والتى ذكرتنى به حين لفت أنظارنا لأول مرة قبل سنوات ففاز بجائزة أفضل عرض وافضل إخراج وتمثيل عن عرض الدخان المعد عن نص ميخائيل رومان «بدراماتورج» مميز أيضا فى مواسم نجوم المسرح الجامعى برئاسة المخرج خالد جلال..
وأمام سردية أفراح القبة اختار المخرج أن يمنح أحداثها الحياة باستعمال تقنيتى كسر الإيهام والمسرح داخل مسرح حتى يستطيع أن يتأرجح بين تداخلات الأزمنة والأمكنة بقدر من الحرية التى لا تخلو من الدقة.. فالحدوتة تدور حول سرحان الهلالى مدير فرقة مسرحية يقرر تقديم مسرحية ألفها عباس كرم يونس وتتناول أحداثها الحياة الشخصية لأفراد الفرقة، ويفضح فيها أسرارهم وعلاقاتهم الخاص.. وهو ما يثير غضب الجميع نظرا لما تكشفه من تناقضات وعهر إنسانى لا يملكون شجاعة مواجهته.. وأمام إصرار الهلالى على إنتاج العمل تصر كل شخصية على تقديم الحقيقة من وجهة نظرها وليس من وجهة نظر مؤلف العمل.. ومن هنا تتقاطع الرؤى والأحداث والزمان والمكان.. وتتعدد الشخوص بتعدد وجهات نظر كل شخصية فى كل مرحلة عمرية.. وهو ما استدعى دقة لا متناهية وإيقاعا لاهثا حققه المخرج ببراعة لم ينقصها سوى تكثيف بعض المشاهد واقتطاع أجزاء من المشاهد المكررة التى تُسلم أحداث الماضى إلى الحاضر.. حتى تكتمل فسيفساء العرض بباقى عناصره والتى تحرك فيها الممثلون بين ديكورات د. عمرو الأشرف الواقعية بألوانها الباهتة الموحية بالقِدم والمقسمة إلى جزأين الأول فى عمق المسرح بتصميم البيت القديم الذى تدور فيه أحداث الماضى والماضى السحيق بين دورين.. الأرضى بحياة كرم وحليمة وابنهما عباس.. ومن قبلهم حياة كرم وأمه.. بينما الدور العلوى باتجاهيه الأيمن لعلاقة الحب بين تحية وطارق والأيسر لغرفة القمار التى شهدت جلسات أعضاء الفرقة.. بينما يتلاقى الاتجاهان فى المنتصف بسلم يعتليه سرحان الهلالى فى النهاية اعلانا بامتلاكه زمام الأمور فى النهاية.. بينما فصل مصمم الديكور منتصف المسرح الأمامى بستائر تجسد أمامها أحداث الفرقة وصراعاتها فى حاضر الأحداث.. وهى ديكورات موحية تحركت بسلاسة شديدة تخدم دلالات العرض..
فى حين اعتمد على إضاءة خافتة طوال الوقت لتلائم أجواء المؤامرات والأحداث التى تحدث فى الخفاء والإيحاء بوجود تحركات الشخصيات لا وجود لها فى واقع الأحداث.. بينما كانت البؤر الضوئية لمونولوجات البوح والاعتراف.. وإن كانت هذه الخطة الضوئية كانت تحتاج مزيدا من التنوع للإيحاء بتقاطعات الزمان والمكان قبل أن تتكشف الحقائق أمام المشاهد تدريجيا.. وبين هذه الديكورات جاء أداء الممثلين الجدد طاغيا يملك كل منهم حضورا خاصا ببصمات لافتة.. ولم يفُت المخرج أن يغزل أداءهم بخبرات عبد المنعم رياض ومحمد يوسف وجيهان أنور وهايدى عبدالخالق وعبير الطوخى.. فرغم ما عرفناه عن عبد المنعم رياض من قدرات كوميدية إلا أنه وصل هنا إلى درجة من النضج الفنى ما جعل المتلقى يلاحقه بنظراته ووجدانه طوال الوقت فقد جسد شخصية سرحان الهلالى بأداء متدفق متعدد الانفعالات باستخدام قدراته الصوتية والتعبيرية متأرجحا بين الدهاء والسطوة والكوميديا المحسوبة أيضا.. بينما استغل محمد يوسف تكوينه الجسدى وقدراته الصوتية فى تجسيد شخصية كرم يونس المغلوب على أمره تارة والشهم تارة والانتهازى تارة ثالثة.. واحتوت هايدى عبد الخالق بأدائها الرصين المتوازن أداء الممثلات الشابات ومنحتهن الطمأنينة فى الوقوف على المسرح.. بينما تألقت جيهان أنور كعادتها فى دور المرأة الانتهازية.. وكانت فاطمة عادل سندريلا العرض التى أبهرت الحضور بمواهبها الغنائية والتمثيلية الرقيقة.. وكذلك أبدعت عبير الطوخى فى دور أم هانى الباحثة عن الحب دون شروط.. أما محمد عبد القادر فقد أثبت بأدائه لدور طارق رمضان أنه يملك لمسات أدائية خاصة يمكنه بها الاستحواذ على وجدان الجمهور إذا أحسن اختيار أدواره مثلما فعل هذه المرة.. فى حين أعلنت ياسمين ممدوح وافى عن نفسها بقوة فى أول عمل لها بدور أم كرم يونس المضطرة إلى إغواء الرجال لكسب لقمة العيش.. فقد تصاعدت بالدور انفعاليا بدرجة مبهرة توحى بأنها ممثلة محترفة قادمة بقوة.. ونرفع القبعة ايضا لمواهب الشباب الذين اجتهدوا جدا لتقمص أدوارهم وجسدوا الحالات التعبيرية للشخصيات بعذوبة شديدة على رقصات المتميز مناضل عنتر.. وهم مينا نبيل.. سمر علام.. محمد تامر.. احمد صلاح.. أحمد عباس.. باسم سليمان.. هدير طارق.. يوسف منصور.. مارتينا رؤوف.. حسام علاء.. والطفل حمزة رأفت.. فهم رهان حقيقى فاز به عادل حسان مدير فرقة الشباب بعد كثير من الجهد فى صقل موهبتهم ليقدمهم إلى الوسط الفنى بثقة تحسب له.
رابط دائم: