رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

فوق ضريح الثعلبى

أحمد بكر

حدّقت فى وجهه للحظات، استرجعت كل الذكريات فى دفقة واحدة.. عادت تتأمله غير مصدقة وهو واقف يبتسم باضطراب، أدركت أخيراً من تقف أمامه بعدما حل بها اليقين صاحت وانطلقت تعدو إلى داخل البلدة.. لحظات مضطربة مرت عليه لم يحسم فيها أمره بالمضى قدماً أم بالعودة من حيث أتي، ثم اهتزت الأرض تحت قدميه ورأى كل العشيرة تتقدم إليه فى حشد عظيم، مازال الخوف يعصف بأفكاره.. هل هم قادمون لثأرهم؟.. لقد هرب منهم ومنها فى جوف العتمة، فهل فضحت نفسها عندهم وطالبتهم باسترجاع ما استلب منها.. لكنها مازالت حية وهم لا يتركون مثل تلك الجريمة دون أن يكفروها بالموت.. وهجموا عليه بالأحضان والقبلات وسيقت الأشواق.. مازالت صفحته عندهم بيضاء لم تلوث على خلاف حقيقته، وحينما يسألونه عن غيبته الطويلة سيقول إن نوراً شده فى العاصمة البعيدة فخف إليها.. وافتر بنيانهم عن شق برز منه رجل أشيب ضج بالبكاء حين رآه وعدا نحوه محتضنا وهو ينتحب قائلاً:

سعد.. كيف هان عليك أبوك؟

ردد سعد:

لم تهن أبداً يا أبت.

إذن لماذا غبت عنى كل هذا الزمان.

وتصايحوا :

حدثنا عن رحلتك ياسعد.

وجلسوا حوله ووراءهم ترامت ثعلبة - بلدته - أمامه كما هى لم تتغير منذ عهد وعيه الأول، مجهولة لا يدرى أحد أى طريق يسلكه إليها.. تكسو الصفرة كل شيء فيها حتى الوجوه.. لا تميزها علامة ولا يرفعها عن الأرض إلا بضع دور تتوسطها دار كبيرهم، فات ثعلبة قانون الحياة الأزلى فتغيرت كل الدنيا عداها، حتى وجوههم يراها الآن كما تركها فكأنهم يدورون خارج الزمان، وتحدث وبالغ كثيراً فشخصت أبصارهم.. واصطنع بطولات وصال وجال فى ساحات وهمية، وادعى علماً غزيراً حصله فى غيبته وشهادات نالها، وعضد من صدقه لديهم هيئته التى تناقضها جلابيبهم المهترئة.. أما هو فكان يرتدى سروالاً وقميصاً، ويحمل فى إحدى يديه خرج ملابسه، وفى اليد الأخرى كتبه التى شدها إلى بعضها بوثاق، تعلم القراءة والكتابة وجالس المثقفين وقرأ بضعة أسطر من هنا وهناك فلم يعى الكثير، أعجبته بعض الثرثرات فاتخذها مذهباً مكتفياً بترديد الشعارات دون خوض فى المعاني.. أخذ خطأً إلى المعتقل ثم أفرج عنه عندما ثبتت تبعيته دون تورطه، وحانت منه التفاتة إليها شملت جسدها كله.. أخذته الذكرى إلى لحظات نشوة قديمة مازالت غضّةً فى كيانه فاهتز لها.. وحينما انفض الجمع عنه تبادلا نظرة فتواعدا بغير كلام .

يبن المقابر مع هبوط الليل جلس منتظراً، وجاءته كأول مرة، فهاماً معاً فى إعصار اللذة ثم قالت حينما فرغا:

ــ تركتنى هارباً كفأر.

ــ ذهبت من أجل العلم.

ــ هذا لا يخدعني.

ــ كنت سأعود تواً.

ــ وما منعك؟

ــ كنت معتقلاً.

ــ لماذا؟

أشعل سيجارة حشيش وجعل يدخنها مستغرقاً وقال:

ــ لأنى شيوعى.

ــ شيوعى؟!

ألم ترين كتبى؟.. إنها تتحدث - جميعها - عن الشيوعية.

لا أفهمك!

قال مستعيراً بضع كلمات حفظها:

الشيوعى ملحد، والدين أفيون الشعوب.. المادية الجدلية تحكم حياتنا.

ــ أنت كافر؟!

ــ هم أيضاً كافرون.

برزت من تحت الأرض رأس نبّاش القبور.. بهته كلامه فارتج عليه، داهمته حروف الكلمات فى مكمنه، فانطلق يعدو متخلصاً من دثار جيفة علقت به.. لم يلتفت وراءه، لا يدرى ماذا كان يتم هناك، لكنه سمع صوت سعد جلياً يجهر بالكفر، وصوت آخر لم يتبين صاحبه.. جرى نبّاش القبور نحو دار كبيرهم.. وجعل يتظاهر أمام داره داعياً إياه أن يستيقظ، فهب إليه يلملم شتاته وصاح به:

ــ ويلك .. ماذا تريد؟

قال بصوت متهدج:

ــ هناك كافر بيننا.

ــ من؟

سعد عويضة.. عاد إلينا زنديقاً.

زنديق!

إنه شيوعي.

ما معناها؟

قال مردداً ما سمعه:

الشيوعى كافر والدين أفيون الشعوب.

إن أباه شيخ.

أما هو فشيطان.

أمسكه من تلابيبه وصاح:

ويلك لو كنت تكذب.

كتبه دليل كفره.

سأقتله لو صحت شهادتك.

إنه الآن بين المقابر يؤدى طقوس الملاحدة.

طاش صوابه.. أمر بصوت ارتجف له نباش القبور أن تذهب جماعة من الخفراء لتسوق هذا الذى يصلى لإله غير معبود، وأمر جماعة أخرى أن تذهب إلى دار الشيخ عويضة لتأتى به وبكل ما يحتويه الدار من كتب تبشر بالكفر.. انطلقت الجماعتان موكلتان بالمهمة المقدسة، ولابد أن يكتمل السعى المبارك بالدماء فتروى به شجرة الإيمان فى نفوسهم.. اليوم يكتمل الزلفى إلى الله وسيصنعون من عظام الكافر سلماً يرتقون به إلى جنة السماء.. فى مكمنه أفلتت هى من بين ذراعيه ونظرت فى اتجاه البلدة، رأت الأشباح تقترب حاملة المشاعل.. حانت ساعة إقامة الحد عليها.. لملمت ثيابها بسرعة وهرولت إلى باطن الصحراء.. أما هو فقد بقى فى مكانه يراقب فزعها غافلاً عما رأته وراء ظهره من جيوش تتقدم إلى مكمنهما، تبلد حسه بتأثير الحشيش، ثم أفاق واكتمل ذهوله عندما تكالبت عليه الأيدى واقتادته عارياً.

كانوا يهتفون لله، فأدرك أن الرجم مصيره.. فى أى حفرة سيطرحونه وبأى حجر سيقذفونه، وأين ذهبت هي؟ وكيف عرفت بقدومهم دونه؟.. أمن صوت خطواتهم أم من أضواء مشاعلهم أم من ضجيج حديثهم؟، وكيف غفل هو عن كل هذا فلم يدرك الفادحة إلا عندما سقط فى أيديهم؟.. فعل الخدر به ما فعل وها هو يمضى معهم إلى دار كبيرهم، وصلوا إلى هناك فقال الكبير:

كيف وجدتمونه؟

كما وضعته أمه فى مهده.

تأمل عريه وقال:

صدق إذن من قال إنه كان يصلى بين المقابر صلاة الكافرين.

وجاءت الجماعة الأخرى بأبيه.. زاغت عيناه حينما رأى ابنه عارياً يجاهد فى ستر عورته.. كان هو أيضاً فى نصف ثيابه فقد انتزع من داره.. الآن تتلى التهمة وتطير رأسه لتستقر فى حجر أبيه.. ألقيت كتبه أمامه، وصاح الكبير:

أتدرى جريرتك؟

قالسعد:

لا.

تلك الكتب.

قال بصوت مبحوح:

ما شأنها؟

أنت كافر.

صرخ:

كلا.

سمعك نبّاش القبور تنطق بالكفر بين المدافن.

ليس الزنا إذن ما جمعهم عليه، ولكن الكفر والعار عندهم يستويان.. فبأى تهمة يعترف لينجو من الأخري.

وعريك؟!

لم يدر بماذا ينطق، فاستطرد الرجل:

ألم تكن تؤدى عبادة الملحدين بتلك الهيئة؟.. ألم تقل إنك شيوعى وأن الدين أفيون الشعوب؟

قال هذا وهو فى ذروة النشوة والخدر، ولو علل تجرده بالخطيئة فسيأتون بها وتردد أمامهم فى فزعها ما حدثها به فتٌثبت عليه الكفر، أو يأخذهم فحشه عن كفره والموت مصيره فى الحالتين.. فليدع نفسه تنجرف إلى تيار لا يدرى فيه ماذا سيفعلونه، وليستدعى ذكريات عالمه الشائن المشبع بالدخان والنزوات.. مضت محاكمته وهو سابح فى موج آخر.. غامت الرؤية واختلطت الأشياء واندمجت الأجساد فى كيان واحد جثم على أنفاسه، سمع عويل وحشرجات وصوت باك يناديه، أحس بآلام فى مواضع شتي، وشعر بشيء يقطر من جسده ووعيه ينداح مع الشلال الخارج من جسمه.. ضاق صدره وتخففت عنه قبضات الرجال، وكانت رائحة التراب الممتزجة بدمائه آخر ما شعر به.

وانكب الشيخ عويضة على جسد الصريع يبكيه.. انتزعه الرجال المحيطون به وقالوا:

لا تبكه فهو كافر.

قال وهو ينتحب:

قتلتموه ولم تسمعوا دفاعه.

تلك كتبه دليل كفره.

لا كفر فيها.

قال الكبير:

وهل علمت القراءة كى تقرر؟

لا.. ولكن الكفر له رائحة لا أخطئها.

ستٌقرأ عليك الكتب الآن فتعلم أى زنديق كان ولدك!

قال متحدياً:

لا يعلم القراءة أحد فينا.

صاح نبّاش القبور:

أنا أعلمها.

هتف عويضة:

لا آخذ فيه بشهادة نبّاش القبور.

قال الكبير:

أخذنا بشهادته حينما صرعنا ولدك.

مضى يفك وثاق الكتب بسكين أخرجه من طياته، وأخذ يقرأ بصعوبة وتأتأة:

المادية التاريخية.. الاشتراكية حلم وعلم.. رأس المال.. رسائل إلى الشباب.. الثورة الدائمة .

أين الشيوعية؟.. أين الكفر؟.. أين الإلحاد؟.. زاد انتحاب الشيخ عند جسد سعد وهو يندب قائلاً:

- قتلوك غدراً يا ولدي.. لا كفر فى كتبك.

انقض الكبير على نبّاش القبور وصرخ فيه:

- اقرأها ثانية.

قرأها مرة ثانية بصوت متهدج.. سيطوله القصاص إن لم يجد دليلا على شهادته.. وأخذ يقلب فى الكتب بحثاً عن آية للزندقة يدلل بها على صحة ما أشاع.. وزادت نهنهة الباكى عند جثمان القتيل، فاضطربت نفوس الرجال .. اكتسب وجه الصريع هيئة نورانية وزاد عريه من جلال مشهده فاختلجت

النفوس.. أخذوا فيه بشهادة نبّاش القبور فأردوه.. وهتف عويضة:

أريد قصاص ولدي.

صاح نبّاش القبور:

سمعته يتحدث بالكفر بين المقابر.

قال الشيخ:

كذبت.

ساق الدفع الأخير عله يدير الدفة بعيداً عن التنكيل به:

ولم كان عارياً؟

ربما أراد أن يخلع ذنوبه مع ثيابه كصوفى يغتسل بشعاع القمر.

دمعت مآقيهم وحركوا أبصارهم بين نباش القبور وكبيرهم.. كلاهما قتلسعد، أحدهما بشهادته والآخر بحكمه وهم قتلوه بأيديهم، ومازال النزيف يقطر من أناملهم، فعلى من يقام الحد وممن يطلب القصاص، وقالوا للشيخ:

مُرنا لنأخذ لك ثأر ولدك.

لا أرضى إلا بدم نبّاش القبور مهراقاً.

هم نبّاش القبور بالهرب منهم فعثر بأحدهم وانهالوا عليه حتى سقط بجوار سعد، اختلطت الدماء ورويت الأرض بمزيج طالما ألفته، وخلع أحدهم عباءته ليستر عرى شهيدهم.. وتذاكروا.. للكلمات رنين عجيب تسرى بقشعريرة فى أبدانهم.. رأس المال.. الاشتراكية حلم وعلم.. المادية التاريخية.. أما كلمات الشرك فهى كالنار تحرق أرضاً طالما حرثت بإيمانهم.. وكيف تٌقبل التوبة الآن وقد حسبوا أنهم شقوا طريقاً إلى السماء فوجدوه ينتهى إلى هاوية الجريمة؟.. والنفس بالنفس ذلك هو القصاص والقانون الذى يخضعون له.. فهل يقتلون أنفسهم؟.. ليستفتوا الشيخ الباكي.. فإذا كان مصرع نباش القبور قد أرضاه كولى للدم، فذلك قصاص لن يرضيهم أما لو أفتاهم أن الثأر كاف وأن ميزان العدل قد استقام الآن فلتكن التوبة غايتهم، وسبيلها دموع لن تجف كلما ثارت فى نفوسهم ذكرى المأساة .

وخطب كبيرهم بعد أن تغلب على قهر الندم وآلامه:

أيها الناس .. لقد أفنيتم اليوم رجلين أحدهما بالباطل والآخر قصاصاً له.. وسأظل أبكى من قتلت يداى حتى يدركنى الأجل وستبكونه أنتم أيضاً.. قتلناه لأننا اخذنا فيه بشهادة نبّاش القبور.. ولما رأينا عريه حسبناه يؤدى طقوساً شيطانية.. ولكننا فحصنا كتبه فوجدناها بعيدة عن الشيوعية والفسق اللتين ادعاهما عليه ذلك الملعون.. لو كنا سمعنا دفاعه (وتحشرج صوته فى نوبة بكاء ثم أكمل).. لو كنا سمعناه لعلمنا أنه كان يغسل ذنوبه بشعاع القمر، وقد ثأرنا له الآن وحق علينا أن نكرم جثمانه وأن نبتنى له مقاماً ولنتخذه ولياً لنا وعلامةً على أرضنا ومزاراً نحج إليه، فمن عساه أن يكون ولياً شهيداً غير امرئ كان يصلى لله فانتزعه الناس ليقتلوه غيلة ظانين به الكفر وهو يبطن الإيمان.

وحملوه على أعناقهم وساروا به إلى بقعة من أخصب أراضيهم دفنوه بها، وأقاموا فوقه ضريحاً أحاطوه بمسجد كبير أصبح الآن معلماً لهم.

وحينما تعود الهاربة التى ابتلعها تيه الصحراء، فلن يعييها أن تبلغ ثعلبة، فقد اشتهرت بين كل البلدان أنها مقام ولى الله «سعد الثعلبي».. وسترى من بعيد كلمات نقشت بالنور على مقامه تقول:

«ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق