صدر عن المركز القومى لثقافة الطفل، التابع للمجلس الأعلى للثقافة، فى سلسلة رموز مصرية هذا العام، كتاب «العقاد الجبار» للشاعر سعد عبد الرحمن. الكتاب يستهدف ويخاطب النشء للتعريف بكاتب كبير بقيمة وقامة عباس محمود العقاد، والذى قد لا يعرف عنه الكثيرون غير اسمه كأحد الشوارع الرئيسية بمدينة نصر، الكتاب متوسط الحجم قليل الصفحات كحافز للقراء، ويتضمن مجموعة مختارة من الصور للكاتب الكبير فى مراحل حياته المختلفة، تم تجميعها من قبل المؤلف.
........................
الكتاب ليس تعليميا فى المقام الاول، لكنه معرفى وثقافى بوجه عام، ساعد على ذلك بساطة الخطاب، من قبل شاعر كبير متمرس، فلا يستخف بالمتلقى وسنوات عمره القليلة أو ثقافته التى قد تكون محدودة، فلا يتعالى عليهم، يحدثهم بصيغة الصديق يكررها أكثر من مره، يا صديقي، ولا يهبط بخطابه لمستوى النشء كعادة مثل هذه الكتب، فيستخدم لغة «شبابية روشة» يفهمها الشباب ومن خلالها يمرر معلومته، لكنه يصعد بهم لمستوى الكتاب والكاتب الكبير عباس محمود العقاد.
سعد عبد الرحمن هنا يخاطب الشباب باللغة العربية الفصحى القوية جمالا ووضوحا، يحافظ عليها طوال صفحات الكتاب، فإذا رأى كلمة قد تستعصى على القارئ يفسرها بوضع المعنى والمغذى بين قوسين، فمثلا: قارئا نهما (لا يشبع)، بواكير كتاباته (بدايات)، ردحا كبيرا (مدة طويلة)، توقيا (تحاشيا) لعدوى شؤمه، وهكذا.
قسم الكتاب لـ 13 جزءا بالتساوى تقريبا: نشأة العقاد، العقاد والقراءة، العقاد والأدب، العقاد والصحافة، العقاد والسياسة، العقاد والترجمة، العقاد والفنون، مؤلفات العقاد، إسهامات أخري، سماته الشخصية، مفتاح شخصيته، التكريمات، وفاة العقاد. يصل من خلالهما إلى الهدف بأقصر الطرق، ويقدم لنا درسا فى كيفية تقديم مواضيع شتى وملتبسة باختصار غير مخل، وبكل سلاسة، ولا أعرف هل رقم 13 أتى مصادفة من قبل المؤلف؟ أم هناك قصدية، وخاصة ان هذا الرقم له حكاية مع العقاد، تم سردها فى الكتاب، فالعقاد طوال حياته يسخر من التشاؤم والمتشائمين فى حديثه الخاص وفى كتاباته، بل إنه يميل للجانب المشرق والمؤمل، حتى إنه سكن فى مصر الجديدة بمنزل كان يحمل رقم (13)، كما كان العدد 13 فى بداية رقم تليفون منزله كما كان يضع على مكتبه الذى يجلس إليه حين يقرأ أو يكتب فى المنزل تمثالا صغيرا لبومة، وهى طائر نذير شؤم وألف كتابا عن ابن الرومى زعيم المتشائمين، ومن سخرية القدر أن يكون اليوم الذى دفن فيه جثمانه يحمل الرقم 13!!.
يبدأ سعد عبد الرحمن كتابه القيم، بشكل تصاعدى من التعريف والميلاد حتى الوفاة، يتكئ على الحوار، حوار ثقافى راق، ما بين الكاتب وصديق مفترض أن يكون المتلقي، يخبره عن سيرة كاتب جبار، أشبه ما تكون بالحكايات، تأخذ من الحكى التشويق، والمعرفة، والمتعة، دون الوصول للحكى المباشر، فمثلا يبلغنا من أين أتى اسم العقاد الجبار: «كان العقاد صديقا مقربا لسعد باشا زغلول زعيم ثورة 1919، وسعد زغلول هو الذى أطلق عليه لقب «الكاتب الجبار» وقد أطلق عليه هذا اللقب لصلابته فى الدفاع عن آرائه ومواقفه وجرأته الفذة فى مهاجمة أعدائه دون تردد أو وجل (خوف)، وقد وصلت به الجرأة إلى حد أنه هاجم الملك فؤاد..».
يقدم العقاد فى الصفحات الاولى كنموذج مثالى للمثقف، شخصية فريدة يحتذى بها، تصلح كقدوة للشباب بوجه عام، وللجموع المثقفين بوجه خاص، وكأحد كبار كتاب مصر عبر تاريخها الطويل، علم نفسه بنفسه، وتفوق على الكثيرين بإصراره، لتعرف فى جزء آخر من الكتاب على مفاتيح شخصية العقاد العظيمة، لخصها المؤلف فى ثلاثة مبادئ رئيسية التزم بها العقاد طوال حياته هى الاعتداد بالذات، والتفاؤل، وتقديس الحرية، والتى قد لا نجدها لدى الكثيرين من الكتاب الآن، ولأن العقاد كاتب من طراز خاص فقد حافظ عليها طوال حياته، لذا مازال احترامه وتأثيره باقيا، رغم وفاته منذ ما يقارب قرنا من الزمان.
ليصل بالحوار والمناقشات، والشد والجذب، إلى التعرض لمختلف جوانب حياتنا الثقافية، قديما وحديثا، أهمية الكتاب والقراءة ويعرج على ثورة عرابى وثورة 19، والحياة البرلمانية قبل ثورة 52 وشخصية المثقف المثلى وغيرهما الكثير.
وسنتوقف عند فقرتين مهمتين فى الكتاب يضافان لمعرفتنا للعقاد، الأولى أنه كان يجيد اللغة الانجليزية ويترجم لها: وللعقاد فى مجال الترجمة الصريحة المستقلة كتابان فقد ترجم مجموعة من القصص لعدد من مشاهير الكتاب الأمريكيين تحت عنوان «ألوان من القصة القصيرة فى الأدب الأمريكي» كما ترجم نخبة متميزة من الشعر العالمى تحت عنوان «عرائس وشياطين».
والفقرة الثانية والتى تعد أهم فقرة فى الكتاب من وجهة نظرى قوله : «خلاصة عقيدة العقاد فى هذا الموضوع أنه كان يؤمن بأن الأدب هو التعبير بصدق ودون تزييف عن النفس الإنسانية، وأن الشاعر الذى لا يعرف، بشعره، لا يستحق أن يعرف فالشاعر الذى لا يحمل شعره طابع شخصيته التى تميزه عن غيره من الشعراء كما تميز بصمات الأصابع كل شخص عن غيره من الأشخاص هو شاعر لا قيمة له».
الشاعر سعد عبد الرحمن بالإضافة لإصدارته الشعرية والنقدية المعروفة، ودوره السابق فى رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة، يعد (المعلم) الاول للكثير من شباب المبدعين، منذ عقود ومازال، فهو المثقف الموسوعي، والقارئ النهم بشكل عام، وللعقاد على الخصوص، حافظ لمعظم نصوصه الشعرية، وفقرات كاملة من مؤلفاته، قدم من قبل مختارات من شعر أحمد شوقى فى كتاب متقن حاول من خلاله تعريف أطفال مصر بأهمية وقيمة شوقى عام 2007م، وقت ان كان الفنان التشكيلى أحمد نوار رئيسا للهيئة العامة لقصور الثقافة.
........................
بهذه السلسلة «رموز مصرية» يسد المركز القومى لثقافة الطفل فجوة فى المكتبة العربية بإصدارها مثل هذه النوعية من الكتب جيدة الصنع والأحكام، فالتعريف بكبار الكتاب فى تاريخ الحركة الثقافية المصرية، ككبسولات صغيرة شديدة التأثير، والتى يحتاجها النشء وعموم القراء، فى هذا الوقت، تساعد فى الحفاظ على الهوية المصرية والشخصية السليمة، ونأمل ان يقدم المركز فى مسيرته كذلك كل الشخصيات المؤثرة فى التاريخ المصري، من علماء وشعراء وقادة سياسيين وتشكيليين وغيرهم، وان يصل بمطبوعاته لجميع أقاليم مصر والمكتبات العامة والمدرسية، تكتب على نفس المنوال وبنفس القدر من الإتقان المتعة والمعرفة فى الوقت نفسه.
........................
ولنعرف نحن ونتعلم لن نجد افضل من قول العقاد والتى أتت فى نهاية الكتاب: «الكتب كالناس، منهم السيد الوقور ومنهم الكيس الظريف ومنهم الخائن والجاهل والوضيع و الخليع، والدنيا تتسع لكل هؤلاء، ولن تكون المكتبة كاملة إلا إذا كانت مثلا كاملا للدنيا». وقوله: «إن تقرأ كتابا جيدا ثلاث مرات أنفع لك من قراءة ثلاثة كتب جيدة».
رابط دائم: