رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رحلة

محمود عوض عبدالعال

أعمى وأصمّ، على مقعدين متجاورين فى قطار تحرك من الإسكندرية إلى القاهرة ليلًا، صديقان لا يرتبطان بأحد، كلاهما طويل ونحيل، الأعمى يمسك عصاه، والأصم يتأبط مجلدا كبيرا، وابتسامته دائمة،

أجلستهما متجاورين بالدرجة الأولى. والتذكرتان سلمتهما للأعمى..

فكيف سيعرفان محطة الوصول؟

الأعمى معه ساعة، وأفهمته ألَّا ينام. وسنتابعهما بالتليفون،

ــ وصرخ فجأة، ودار حول نفسه: يا نهار أسود.. نسيت تليفون الأعمى معى.. يا ربى ماذا أفعل؟! يبكى.

تحرك القطار..

سامحك الله ضيّعتهما!

ــ لو كُنت سائق القطار، لأعطيت القضبان طريقًا أبعد، أنا لا أتسلل، أتحداكم جميعًا أن تعرفوا ما فعلوه بى، جعلوا رفيقى أصمّ، الويل لى، أرافقك مجبرًا فى رحلة ليلية، كل من فى القطار يعرف حالى حين يرانى، أما أنتَ فعيناك الواسعتان تخدعهم كأنى تابع لك، تراقب العابرين والجالسين من النساء، إنه يوم متعب، والتعب يخلق تعبًا آخر. تقرأ بعينيك، ترى ما لا أراه، وأخبرونى أنك فطن رغم محنتك، سوءة عدم الاستماع تمحو سيئات خرسك وهدوئك، لا يعرفك إلا من عاش قريبًا منك، ولا أقول كل ما فيك مكر ودهاء، ولا بعض ما بداخلك أبيض.

بعد مسيرة نصف الساعة، توقف القطار نهائيًا فى لهيب يونيو والتكييف متعطل، مهندسو القطار يهرولون بين العربات، والنوافذ لا تفتح، قام الركاب بحثًا عن الهواء، الأصوات تعلو، والممر بين المقاعد يزدحم. واللغط يتزايد.

وقف الأعمى وسأل: يا حضرات.. هل حدث مكروه لأحد؟

ــ القطار توقف لعطل فى الكهرباء

سأتصل بالأعطال لأخبرهم، (صرخ وهو يفتش جيوبه) التليفون أخذه الثرثار، أو طمع فيه، أو استغل حالى. ومعك فقط (جابر الأصم)، الملعون قطع علينا الطريق، إلى أين نذهب، ومن سيقابلنا أو يعرفنا فى ميدان رمسيس، نهض الأصمّ واقفًا إلى جوار زميله، ربّت عرقسوس على كتفه وأجلسه، ومسح على رأسه حتى جلس..

ــ من أنت؟

ــ أنا مفتش القطار، أقول لكم بصراحة، التشغيل سيتأخر.

(امرأة تصرخ) معى أطفالى، كيف نبقى بلا تكييف ولا هواء.

فتحنا كل أبواب القطار، واحذروا النزول، فالقطار مرتفع..

ــ سيادة المفتش ماذا نفعل؟!

ــ كرر ما قاله: القطار عطلان..

ــ أنا أعمى ومعى أصم.. هل يمكننا القفز؟!

ــ قالت عجوز: لا تفعل ذلك يا بنى

يرى المخاطر تحيط به وصديقه. عليك أن تحل مشاكلك، لعل الدم لا ينبض فى رأسك، ما هذا الثقب فى جيب بنطلونى، يذكرنى بعائلتى، ولم الشمل كلام يتردد لكل زُوّار بيتنا، يحدقون فى لسانى وأحلامى ويقظتى، لا تفرك عينيك يا أعمى، ذنب الانشغال بالعلم، اختاروك قائدًا لأصم من عائلة ميسورة الحال، وهو يرى ما لا أراه، وللإبصار منافع، متعة الصورة الملونة.

نهض الأعمى حرك زميله: يا أهل الله.. يا ناس يا طيبين..

ــ رايح فين.. اقعد انت وزميلك

ــ أنت لك وضع خاص، حافظ على كرسيك.

ــ كده؟!

اكتملت عزلتكما، فقدتما التليفون والطريق، صرتما لعبة بين الظلام، والصمت، فرعين ملتصقين من عَجُز نخلة ميتة، الأصم صامت محتميًا بذراعى، وأصبحتما نهبا لتفسيرات المحيطين، وبكاء وصراخ النساء. والحرارة تشتد والنوافذ ساخنة، كأننا فى صحراء، المتحركون فى الممرات، يثرثرون فى كل شيء!. ارتطام عربات القطار يرعبنا، والأصم يقهقه، ويمسك بظهر المقعد الأمامى، أجلسه الأعمى عنوة!

أصوات أقدام مسرعة فوق سطح القطار، فى الاتجاهين، لعله الصبى الشهير (التوربيني) يقود عددًا من أطفال الشوارع، أو قلَ حصاد يومه من النشل وخطف التليفونات وحقائب السيدات، ألقاه من فوق سقف القطار المنطلق، ليحكم سيطرته على بقيتهم.

طرح كيس الطعام بينه وبين رفيقه، والمعدة بيت الداء، كما يرددها دوما الأزهرى الأعمى، يعانى ورما غير حميد بالقولون وتم استئصال الورم ويحتاج لعلاج ممتد..

نودى من بعيد، وجد نفسه جالسًا بجلبابه على ميدان باب السر، كان الشيخ أمين يحفظه سورة الكهف، آخر ما تبقى له من القرآن، للحصول على مكافأة أبيه، وهو فى الاختبار تاهت منه الآيات، وضاع أهل الكهف فى ظلمة غيبتهم.

ــ لدينا ضيوف الليلة

وكيف عرفت؟

ــ انتظر.. أحدهم ترك لك كتبًا.. ولم يقل شيئًا.. ــ انصرف بسرعة حين سمع صوت أبى قادمًا نحو الباب

ــ وأين الكتب؟

ــ فى عناية أبينا

حرك «عرقسوس»، وحاول التربيت بيُسراه على كتف الأصم، فتهاوت ذراعه على المقعد الخالى، فانتفض مذعورًا: (جابر) أين أنت؟. تصرخ وهو أصم، يا خلق الله، ساعدونى، الرجل الذى كان معى أفلت على غفلة، وهو أصم، هل يسمعنى أحد؟

ــ قال المفتش: اجلس فى مقعدك.. احتمال القطار يعود إلى الإسكندرية..

ــ قل لى يا حضرة: هل نزل إلى الغيطان مع الركاب.

هرج وأصوات وصراخ تتصاعد من خارج القطار

ــ قال ضابط الشرطة: هل بقى أحد لم يصعد إلى القطار؟

ــ اصوات متعددة وحالة هرج ومرج

ــ ابعد ذراعك عنى، روحى هتطلع، قميصى تمزق، يا ولية حاسبى، طلعت حافى، اطلع عند الباب وامدد يدك للأطفال..

ــ قال الضابط: اصعدوا جميعا القطار سيعود إلى محطة سيدى جابر..

ــ قلها مرة ثانية!

ــ القطار سار إلى الخلف، دون إذن الركاب، بطيئًا كطابور جنازة

فضيلة شيخنا الجليل، شيخ المعهد، أنا الطالب «عرقسوس» بالفرقة الثالثة الإعدادى، مالكى المذهب. دخل إلى فضيلتك عنوة،

ــ الشيخ: أعوذ بالله.. قل ما عندك يا أعمى البصر والبصيرة..

ــ يا مولانا الصندوق الموجود فى مكتب فضيلتك يخصنى..

الأقدام تتدفق إلى حجرة الشيخ، مشايخ التخصصات، اللغة العربية والفقه والشريعة والمالكية والشافعية والحنفية والمراقب العام «الشيخ جاد» الذى بادرنى بقوله: من أدخلك هنا أيها المشاكس «عرقسوس»؟

صندوق مجهول المصدر، تدحرج بفعل الرياح على سقف المعهد الأزهرى بالقبارى المطل على الميناء الجاف، وسقط فى صحن المعهد أمام حجرات الدرس، هرع الطلاب والأساتذة، وقال شيخ عجوز: يشبه صناديق النذور فى المساجد. وحملوه إلى حجرة الشيخ الكبير..

ــ سألتك: من أدخلك هنا؟ اخرج فورًا.. وعُد إلى فصلك

فى حضور الزملاء العميان، إلى السكن الطلابى الملاصق للمعهد، تتردد الأسئلة حولك، تملأ قلبك محبة وشجاعة وإصرارًا على الحياة، تركن إلى الراحة فيما أقدمت عليه، وسط صحبة يحكون عن البطولة فى مواجهة العمالقة، إلا هذا السر الغامض عن الصندوق الذى يخص «عرقسوس».

على باب السكن تفرقوا، ثمة جسد مشبع بالسمرة أحبط بطرده من غرفة شيخ المعهد دون الاستماع إليه، تمدد على سريرك ونم، أقدام الطلاب تتوافد، وفكرة فوضوية تلح على ذهن البعض فى جمل مبعثرة، يغلب على معانيها لون البنفسج وقتامة الصبار..

انتظموا فى الصباح، وقبل الثامنة، مرت من فوق رءوسهم أسراب جراد فى موجات..

ــ قال الشيخ جاد: «انصرفوا إلى حجرات دروسكم وأغلقوا النوافذ والأبواب»..

مدرس الجغرافيا الأنيق «أبو العمائم» دخل علينا الفصل، لا يرتدى الزى الأزهرى، بصوته الواضح الرزين سأل عن «عرقسوس» وعندما أجابه بنعم، أجلسه ولم يعلق، وعلى الحائط صورة إفريقيا، وأخذ يروح ويجيء بين المقاعد صامتًا..

أبنائى، الصحف اليوم نشرت خبرًا سيئًا، بل كارثة ثقافية ووطنية، تعلمون ما هو الخبر؟!

شملنا الخرس والدهشة..

ــ كلكم جئتم من السكن الطلابى، لا بأس، الخبر عن حريق ضخم وتخريب متعمد للمجمع العلمى بشارع قصر العينى، والنيران مشتعلة منذ أمس إلى الآن، كما حدث للأوبرا عام 1970، الأوبرا التى بناها الخديو واستقبلت ملوكًا ورؤساء، وفنانين وفنانات من العالم كله، كم خسرنا من حرق تراثنا العلمى والمتحفى..

ــ اجلس يا «عرقسوس»، لست مندهشًا لكلامك، فالصحف والمجلات والإذاعة والتليفزيون ممنوعة فى السكن الطلابى، وعد منى.. سأحدثكم عن الكارثتين لخمس دقائق فى كل حصة، للعلم كلتاهما فى القاهرة..

خرج مدرس الجغرافيا غاضبًا ومصدومًا، جرى خلفه طالب بحقيبته المنسية، توقف، كان شاردا وهو يتناول حقيبته..

ــ إلى أين يا مغربي؟!

ــ سينما الهلال القريبة، فيها فيلم «شباب امرأة» لـ «تحية كاريوكا» و»شكرى سرحان»..

ــ خذنى معك، سأدفع ثمن التذكرة.

ــ يا «عرقسوس»: سينما الصورة مهمة..

ــ فاهم والله، خذنى معك، سمعت عن الفيلم كثيرًا..

القطار يدخل الإسكندرية ذليلًا بركابه، غارقًا فى الصراخ ولعنات الغضب.

فى همهمات التوتر بنقرات عصاه على رصيف سيدى جابر، سأل نفسه لماذا تقبَّل ما يحدث؟ وسكت على ما فعله «عرقسوس»؟!

استجاب مرغمًا لامرأة تسحبه من ذراعه، ومشى معها بلا مقاومة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق