-
سور أثرى من حجر الصوان وأيقونات من القرن 14
يعتبر وادى النطرون أحد الأماكن التى باركتها العائلة المقدسة خلال رحلتها إلى مصر، وتعد الأديرة الأربعة »البراموس وأنبا مقار والأنبا بيشوى والسريان« مزارات لمئات الآلاف من السياح والمسيحيين ولاسيما مكان دفن الأنبا بيشوى الذى توفى فى القرن الرابع الميلادى والبابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل،
وتعد الأديرة الأربعة هى الأديرة المتبقية من بين 50 ديرا قبطيا كانت موجودة فى الماضى وقد سجلت الأديرة الأربعة فى عداد الآثار القبطية.
وتمثل الأديرة الأربعة بعناصرها المعمارية من كنائس وحصون ومغارات وكهوف وأسوار وموائد أثرية من بداية القرن الرابع الميلادى طرازا معماريا قبطيا واسلاميا متطورا يمثل فترة مهمة فى تاريخ عمارة الأديرة بالعالم.
وهناك مظاهر التراث الحى المتجدد بالأديرة منها اللغة القبطية ومصنفاتها الأدبية التى تعد مصدرا خصبا للتراث والإرث الحضارى والدينى كما أنها ما زالت تتداول حتى الآن فى صلوات الأديرة. لذا لم يكن من الغريب أن تتقدم مصر مؤخراً بطلب لإدراج أديرة وادى النطرون ضمن قائمة التراث العالمى باليونسكو.
تحقيقات «الأهرام» قامت بجولة ميدانية فى ربوع الأديرة الأربعة بوادى النطرون ... فكانت التفاصيل.
خلال جولتنا التى بدأناها من دير البراموس اصطحبنا الراهب كيرلس البراموسي، وشرح لنا حكاية وتاريخ إنشاء أول دير فى وادى النطرون، وقال إنه يشغل الموقع الذى استقر فيه القديس مكاريوس الكبير سنة 340 ميلادية ليكرس نفسه لحياة الرهبنة، وتقدر مساحة الدير الأثرى بنحو فدانين وطوله من الشرق إلى الغرب 100-107 أمتار وعرضه من الشمال إلى الجنوب 83-90 مترا، ويتراوح ارتفاع سور الدير من 10-13 مترا وسمك الحائط حوالى متر ونصف وهو مطلى بالجبس الجبلى وطبقات سميكة من الجص وأعلى السور الأثرى توجد فتحات يطل منها الرهبان على القادمين إلى الدير ويرجع تاريخ السور الأثرى للقرن التاسع الميلادي.
العصر الفاطمي
ويوجد داخل الدير الاثرى 5 كنائس أقدمها كنيسة العذراء الأثرية بنيت على الطراز القبطى وتقع جنوب الحصن ومدخله يطل عليها وتبلغ مساحتها 1200 متر مربع وللكنيسة 3 هياكل يرجع تاريخ أقدمها للقرن التاسع الميلادى أوسطها باسم السيدة العذراء وبه باب خشبى كبير من خشب الجميز طوله 6 أمتار ويرجع للعصر الفاطمى ومطعم بحشوات جميلة الصنع، كما تظهر اللوحات الجدارية والتى يرجع تاريخ أقدم واحدة منها إلى حوالى عام 1200 م منها جدارية الملاك ميخائيل على عمود بالجهة الغربية وجدارية بشارة الملاك جبرائيل للسيدة العذراء فى الناحية الجنوبية بصحن الكنيسة.
وتوجد كنيستان صغيرتان ملحقتان بالكنيسة الأثرية أولاهما كنيسة الأمير تادرس ويقع مدخلها فى الحائط الشمالى الغربى من الكنيسة ويبلغ صحنها 32 مترا 32 مترا وتتكون من هيكل واحد صغير الحجم ولم تعد تستخدم لفترات طويلة، والكنيسة الثانية هى كنيسة مار جرجس التى تقع بجوار المعمودية وعلى الجانب الشرقى لها توجد كتابة باللغة الأرمينية القديمة ويرجع تاريخها إلى أوائل القرن الحادى عشر.
وعلى يمين الباب الشرقى للدير الأثرى تقع كنيسة مار يوحنا المعمدان التى شيدت فى القرن التاسع عشر وتحتوى على خزان أو صهريج عيد الغطاس وهو الخزان الوحيد الذى لا يزال باقيا فى وادى النطرون، وعن طريق جسر خشبى من الكنيسة الأثرية إلى باب الحصن وصلنا إلى كنيسة الملاك ميخائيل حيث جدرانها المكسوة بالبلاط، وفى أعلى الباب البحرى للدير دخلنا (المطعمة) وهى حجرة يحفظ فيها الخبز والماء لأى عابر سبيل دون أن يضطر للدخول إلى الدير وذلك عن طريق فتحة فى أرضيتها وبواسطة سلة صغيرة تتدلى بحبل، وبجوار السلم المؤدى إلى المطعمة يوجد فرن لحرق الجبس على شكل بئر صغيرة من الطوب الأحمر كما توجد طاحونة الجبس وهى عبارة عن حجرة بها حجر كبير يدور على قاعدة يحيط بها سور قليل الارتفاع لحفظ الجبس عند طحنه.
المائدة الأثرية
وعن طريق ممر يقع فى غرب الكنيسة الأثرية من الجهة الجنوبية دخلنا إلى المائدة الأثرية وهى عبارة عن صالة مستطيلة يبلغ طولها 14 مترا وعرضها حوالى 4 أمتار والمائدة ذاتها حجرية وترجع للقرن التاسع الميلادى وهى مقسمة إلى ثلاثة أقسام بين القسم والآخر نحو 15 سم ببروز بسيط، وكان يجلس على هذه المائدة من الشرق للغرب الشيوخ ثم المتوسطون فى الرهبنة ثم حديثو الرهبنة، ويوجد بالجهة الشرقية من المائدة الاثرية منجلية مصنوعة من حجر أبيض على شكل حرف Y حيث كان يقف أمامها رئيس الدير ليقرأ من كل بستان الرهبان إلى أن ينتهى الجميع من تناول طعامهم.
دير القديس الأنبا مقار
وعلى بعد 28 كيلو مترا من دير البراموس الأثرى يقع دير أنبا مقار الأثرى الذى شيد فى القرن الرابع الميلادى . ويؤكد الأب شرابيوم المقارى أنه بدخول العرب مصر عام 641 م أعطى عمرو بن العاص الأمان للرهبان وصرح لهم بإعادة بناء اديرتهم وكنائسهم التى تهدمت بفعل الغارة الرابعة للبربر عام 570 م واضطهاد الوالى كيرش البيزنطى سنة 631 م للرهبان حتى هجر معظمهم الأديرة ولجأوا للأماكن القريبة من المدن، والقلالى القديمة تختلف عن القلالى الحديثة تماما فهى عبارة عن غرف ذات قبو منخفض جدا لها باب ضيق ومنخفض ومن داخلها توجد غرف مقببة أخرى ليس لها فتحات وتسمى «محبسة» حيث يصلى الراهب وينام.
قبة الميرون
وبمجرد دخولنا من بوابة الدير الأثرى عبرنا تحت قوس أثرى قديم من الطوب الأحمر وهو من القرن السابع الميلادى وفى واجهته رأينا كنيسة القديس أبسخيرون وعن يمينها تقع كنيسة التسعة والأربعين شهيدا، ومن هذا الطريق توجهنا لكنيسة الأنبا مقار الأثرية التى يعود تاريخها للقرن الرابع الميلادي، وتتميز بارتفاعها واتساعها وتزين جدرانها بالصور والنقوش والأعمدة الرخامية ذات الألوان الزاهية، وتمت إضافة صحن الكنيسة ومنارة الدير الحالية عام 1929م ويعود الهيكلان الأوسط والشمالى للعصور الوسطي.
وفوق كنيسة أنبا مقار وبالتحديد فى الركن البحرى الغربى تقع قبة الميرون وهى المكان المخصص قديما لطبخ زيت الميرون على يد البطريرك فى احتفال مهيب يحضره معظم الاساقفة أى ظل ميرون مصر كلها يخرج من دير أنبا مقار قرابة 9 قرون متوالية أى حتى منتصف القرن الرابع عشر.
دير الأنبا بيشوى الأثري
ويقول الأب عيزرا إن دير الأنبا بيشوى من أقدم الأديرة الموجودة فى مصر إذ يرجع تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي، وتبلغ المساحة الأثرية للدير دون المساحة المضافة فدانين و16 قيراطا ويقع مدخل الدير فى النهاية الغربية للسور الشمالي، ويحيط السور بالدير من جميع الجهات وهو من الحجر الصوان ويبلغ ارتفاعه 15 مترا وسمكه متران يعلوه ممشى له دروة من الجانبين حيث كان الرهبان قديما يراقبون منه الغزاة وحينما يشعرون بالخطر كانوا يهربون للحصن، ويقال إن الذى أحضر الباب الأثرى للدير خمارويه بن أحمد بن طولون، ويلاصق السور الأثرى عدد من القلالى القديمة التى ترجع تاريخها للقرن التاسع الميلادى وهى لا تستخدم حاليا بعد استبدال قلالى أخرى بها.
وتجولنا داخل الدير الأثرى حيث العديد من الكنائس الأثرية منها كنيسة الأنبا بيشوى الأثرية ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع وتحتوى على 3 هياكل، الهيكل الأساسى على اسم القديس الأنبا بيشوى ويرجع تاريخ باب الهيكل للقرن العاشر وهو من الفن الفاطمى أما الهيكل القبلى فيضم بعض الرسومات الأثرية على الحائط الشرقى كما يوجد الأنبل (المنبر) الذى يرجع تاريخه إلى القرن السادس، وعلى جدار الكنيسة توجد أيقونة أثرية للسيدة العذراء من القرن الرابع عشر، وعلى الجانب الآخر أيقونة للشهيد مار جرجس يرجع تاريخها للقرن الخامس عشر، وفى الثلث الأمامى من الكنيسة يوجد باب خشبى طوله 7 أمتار وينتمى إلى الفن الإخشيدى ويرجع تاريخه للقرن الحادى عشر حيث تعد الكنيسة من طراز الكنائس الطويلة والتى تتفق مع الطراز البازيليكي، ويوجد فى الناحية البحرية فى الأمام من الكنيسة الصندوق الخشبى الذى يضم جسد القديس الأنبا بيشوى ورفات القديس الأنبا بولا الطموهي، أما من الناحية القبلية فى خلف الكنيسة فيوجد مزار البابا بنيامين الثاني.
ودخلنا كنيسة السيدة العذراء والأنبا بنيامين داخل كنيسة الأنبا بيشوى من الناحية البحرية وبها مذبح يرجع تاريخه للقرن الرابع، وفى الناحية الشرقية بقايا فريسكا (رسومات جدارية) يرجع تاريخها للقرن الحادى عشر أما حجاب الهيكل فيرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر، وتقع كنيسة مار جرجس الأثرية ملاصقة لكنيسة الأنبا بيشوى ويرجع تاريخها للقرن السادس.
أما كنيسة الشهيد أبسخيرون الأثرية فتقع داخل كنيسة الأنبا بيشوى أيضا ويرجع تاريخها للقرن التاسع وبها هيكل أثرى يرجع تاريخه للقرن الحادى عشر، ويرجع تاريخ كنيسة الملاك ميخائيل لمنتصف القرن الخامس الميلادى وتقع فى الطابق الثالث من الحصن.
متحف المائدة الأثرية
وعبر ممر ضيق بعرض مترين كان عبورنا لزيارة متحف (المائدة الأثرية )الذى يرجع تاريخه للقرن الرابع الميلادى ويحتوى المتحف على كثير من القطع الأثرية وكثير من الأيقونات الأثرية وكان يجتمع فى المائدة الاثرية الآباء الرهبان يوم الأحد بعد القداس لتناول طعام الأغابى (المحبة)، كما توجد «صواني» للضيافة مرسوم عليها بالفن القبطى والإسلامى والفرعونى والروماني، و»هون» يرجع للقرن الرابع الميلادي، و»حلل كبيرة» من منتصف القرن الخامس كان يصنع فيها زيت الميرون، «وباب أرابيسك «فن اسلامى يعود للقرن التاسع، وجرة لتخزين الزيوت من القرن الخامس عشر.
وفى الطريق المؤدى للحصن تقع بئر الشهداء وهى البئر الأصلية التى كانت تستخدم منذ عهد الأنبا بيشوى ويبلغ عمقها 12 متراً وفيها غسل البربر سيوفهم من دماء الشهداء التسعة والأربعين الذين قتلوهم فى دير أبى مقار.
وفى مدخل الدير الأثرى من ناحية اليمين يقع الحصن القديم الذى أنشئ فى عام 647 م وتبلغ مساحته 2020 متراً مربعاً وارتفاعه 25 متراً وقد بناه الملك زينون لحماية الرهبان من هجمات البربر تكريما لابنته إيلارية التى تنكرت فى زى رجل وترهبنت وذاع صيتها فى العالم كله.
ومن أهم معالم الدير الأثرى مزار مثلث الرحمات ويحوى مدفن قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل ومتعلقاته من الأوسمة والملابس الكهنوتية وصوره مع زعماء العالم وبعض شهادات الدكتوراة التى حصل عليها والكتب التى قام بتأليفها والتى بلغت 143 كتابا.
دير السريان الأثري
تأسس دير السيدة العذراء مريم (السريان) فى القرن الخامس الميلادى فى المنطقة المعروفة ببرية شيهيت بوادى النطرون والتى كانت محل اجتذاب عدد كبير من الآباء الأوائل للرهبنة والذين اشتاقوا إلى الحياة النسكية.
ويقول الاب سرابيون السريانى إن الدير يعد آخر الاديرة الأربعة الموجودة فى وادى النطرون ويشبه فى بنائه الخارجى شكل الفُلك وهو رمز لفُلك سيدنا نوح عليه السلام الذى بناه ليخلص به نفسه وأسرته وقومه من الطوفان الذى اجتاح الأرض كلها فى العهد القديم، وتبلغ مساحة الدير الأثرى فدانا بخلاف مئات من الافدنة تستخدم فى الزراعة.
وبمجرد عبورنا البوابة الرئيسية رأينا البوابة الأثرية القديمة فى الجزء الغربى للحائط الشمالى لسور الدير الاثرى وتعلو البوابة الاثرية غرفة صغيرة تعرف (بالمطعمة) الأثرية وكانت تستخدم كمكان يسكن فيه أحد الرهبان المسئول عن فتح البوابة للزوار ويتدلى حبل طويل يصل ليد الزائر وفى نهايته من أعلى جرس وبمجرد أن يشد الحبل يدق الجرس فينظر الراهب من الطاقة الصغيرة فإذا كان أحد البدو العابرين فيلقى له الراهب بالماء والخبز لذا سميت بالمطعمة. أما الحصن الأثرى للدير فبُنى على شكل قلعة رومانية حوالى عام 850 م بهدف حماية وخدمة الرهبان الذين يلوذون به لحمايتهم من هجمات البربر وكان صعودنا للحصن من خلال قنطرة خشبية ثبت أحد أطرافها فى أول درجة للسلم المتجه لأعلى داخل البرج ويثبت طرفها الآخر بسلسلة معدنية قوية يستخدمها الرهبان بعد الدخول للحصن لسحب القنطرة الخشبية إلى أعلى لتغلق باب البرج ويبلغ ارتفاع الحصن 18 مترا ويضم دورا أرضيا وبه كنيسة للقديس الأنبا صموئيل المعترف وثلاثة أدوار علوية بها كنائس للملاك ميخائيل وللآباء الرسل وهياكل كما يضم بعض الحجرات التى كانت تستخدم قديما كأماكن لتخزين بعض البقول والخبز ليقتات منها الرهبان فترة اختبائهم بالحصن حتى نهاية هجمات الأعداء.
المغارة الأثرية
وبمجرد خروجنا من الحصن توجهنا للجانب الجنوبى الشرقى لزيارة مبنى كنيسة السريان الأثرية فهى من أقدم وأروع وأجمل كنائس الأديرة لما فيها من أيقونات ورسومات فريدة وتصميم داخلى متميز وأبوابها الأثرية والفريسكات الفنية المتميزة بألوانها الإبداعية من القرنين الثامن والثالث عشر الميلادى منها صورة نادرة للسيدة العذراء وهى ترضع السيد المسيح، ويتميز الهيكل الأوسط للكنيسة بالجدران القديمة التى زينت برسومات فنية إبداعية جسدت رموز مسيحية كتابية أصيلة مثل الزيتون والعنب والآلات الموسيقية التى استخدمها النبى داود، كما يتميز الهيكل الأوسط بباب أثرى معروف بباب الرموز (النبوات) المصنوع من خشب الأبنوس والمطعم بالعاج والذى يتكون من ضلفتين تضم كل ضلفة 3 أقسام متصلة بمفصلات ليتحرك بطريقة ميكانيكية مظهرا تفاصيل الرسومات الأثرية عليه ويرجع تاريخها للقرن العاشر الميلادي.
وفى داخل الكنيسة توقفنا عند مقصورة تحوى رفاة ستة عشر من الآباء البطاركة وهم أصلا من رهبان الدير وفى صحن الكنيسة الأثرية توجهنا فى الممر القبلى حيث مغارة أثرية قديمة ترجع للقرن الرابع الميلادى وهى عبارة عن ممر ضيق على كهف صخرى استخدمه القديس الأنبا بيشوى كمكان خاص للوحدة والصلاة وكان يصل إليه عبر نفق تحت الأرض ويظهر فى أعلى الكهف سلسلة معدنية يتدلى منها حبل كان يستخدمه القديس بيشوى فى ربط شعر رأسه حتى يوقظه إذا غلبه النعاس أثناء الصلاة.
ومررنا بكنيسة شيوخ شيهيت التى تحوى أجساد الشهداء التسعة والأربعين الذين قتلهم البربر عام 444 م وفى الجانب القبلى لكنيسة المغارة الأثرية تقف شجرة عملاقة منذ 1700 عام وتحمل خلفها قصة فريدة حيث كان يتوكأ القديس مار أفرام السريانى على عصاه التى تركها خارجا وغرسها فى الأرض اثناء دخوله على الأنبا بيشوى وإذ بها تنمو وتثمر فروعا وتتحول إلى شجرة مثمرة لنبات التمر الهندي!
رابط دائم: