يُعتبر كتاب «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الرُّوسيا» لمؤلفه الشيخ محمد عياد المصرى الطنطاوي(1810ــ 1861م) ــ الذى أخرجته مكتبة الآداب المصرية فى طبعة جديدة، حققها د. محمد سيد على عبد العال ــ لَبِنة مهمة من لبِنات قصر العلاقات المصرية ــ الروسية المنيف لكون الطنطاوى من أوائل الرحالة المصريين الذين توجهوا لاستكشاف روسيا.
أقام الطنطاوى هناك نصف عمره تقريبا وعمل كأول أستاذ للغة العربية فى معهد اللغات الشرقية التابع لوزارة الخارجية الروسية. ووصفه المستشرق الروسى البارز إغناطيوس تشكوفسكى الذى كتب سيرة حياته ـ بالشخصية المتفردة التى لم تتكرر فى تاريخ الاستشراق الروسي.
ويتضمن الكتاب التحقيقُ العلمى الأول والكامل لأهم نصٍ رحالة عربى لأوروبا الشرقية، الذى يُعد نموذجا فريدا للتواصل الثقافى والحضارى مع الآخر، وجاء مُحملا بحمولات أبستمولوجية، وأنطولوجية، وإثنوغرافية، صيغت بأسلوب أدبى راق، ويمثل هذا النصُ قيمة أدبية وثقافية وحضارية لا تقل أهمية عن نص رحلة رفاعة الطهطاوى لفرنسا. ينتفضُ عبد العال مُدافعا عن الطنطاوى رافضا مقولة رجاء النقاش عنه بأنه كان مُنشغلا بذاته عن وطنه، ليثبت أن ذلك الوصف لا ينطبق عليه .ويلفت المُحقق إلى أن صلة الطنطاوى بالمستشرقين بدأت عندما التحق بإحدى المدارس الإنجليزية، وهنا كانت بدايات الدهشة، والتعرف على المستشرقين والاستفادة منهم، بعكس كثير من المصريين العائدين من أوروبا.
يبدأ «تحفة الأذكياء» بمقدمة، وتمهيدٍ كاشف لماهية النص الأدبى الذى يعد الرحلة الثانية أو الثالثة بعد رحلة ابن فضلان الشهيرة إلى بلاد الروسيا، وما حولها ، وكانت رحلة الطنطاوى بغرض البحث عن أسباب جديدة للنهضة الحديثة التى تبناها محمد علي، ويبرُز من التمهيد أيضا الجهدُ المبذول فى تحقيق هذا الكتاب، عارضا المقارنات بين النسخ، مُرجحا الأصوب، كما عقد مُقارنات واسعة بين رحلة الطنطاوى ورحلة الطهطاوي، كاشفا الفارق بينهما ونقاط الاتفاق والخلاف.وتستهل مادة الكتاب بباب عن منشأ الروس، مؤكدا أن السكان الأُوائل لتلك الأراضى كانوا «صقلب»، وكانت تلك الأراضى عبارة عن غابات مُلتفة وكان سكانها يعبدون الشمس والقمر والأصنام، ولا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ويلبسون جلود الوحوش، ويعيشون فى حفرٍ فى باطن الأرض يحتمون فيها، كما يتناول أنواع الصقالبة وأصلهم وطريقة معيشتهم القائمة على الغارة على جيرانهم، وسلب ممتلكاتهم. ثم يتحدث عن «بتربورج» (سانت بطرسبرغ حاليا)، وطبيعة أرضها، ومائها، وقوة البرد فيها، لدرجة أنه كانت تُنحت من الجليد أحجارٌ وتستخدم فى البناء، كاشفا عن الكثير من معالم البلاد الروسية، حتى إنه يمكن القول إن هذا الباب هو دراسة تاريخية جغرافية جيولوجية عن بتربورج، حيث قسمه لعدة فصول ركزت فى معظمها على حياة بطرس الأكبر وإنجازاته وإصلاحاته، ودوره فى نهوض روسيا وتقدمها.
وأخيرا يتحدث المؤلف عن عادات الروس وأعيادهم، وتقدمهم فى العلوم والفنون، وأنماط المعيشة وغيرها من العادات التى تكشفها مطالعة هذا الكتاب الشيق الذى صاغه شيخ أزهرى معمم بأسلوب أدبى راقٍ.
رابط دائم: