فى ذكرى رحيله الرابعة التى تحل اليوم، يبدو وكأن الأستاذ مازال معنا، وأنه واقعا إعلاميا وإنسانيا ترك بصماته على أجيال من تلاميذه ومريديه، حتى مع الذين اختلفوا معه أحيانا فى تقييم إرهاصات حقبات من تاريخ مصر المعاصر. علمنا «الأستاذ» أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، وأن الحرفية والثقافة والمثابرة والمغامرة وملاحقة الأحداث المحلية والعالمية والاضطلاع المستمر، هى أسلحة «الجورنالجي» الناجح.
منذ أول لقاء بمكتبه بالأهرام حددته لي، السيدة الفاضلة جيهان السادات تلبية لرغبتى فى الانضمام إلى هذا الصرح العريق، بعد تخرجى مباشرة، شعرت أننى أعرفه منذ زمن بعيد. تنقل الحديث يومها بين وقائع الحرب الأهلية الاسبانية، وأعرب «الأستاذ» حينها عن ولعه بتاريخ أوروبا، وفخره بمبنى «الأهرام» الحديث الذى اختار له أن يكون مزيجا بين « لندن تايمز» « والمانيتشي» الياباني، وفقا لأحدث التطورات فى عالم الصحافة.
وتحقق الكثير من مراد الأستاذ بأن تجمع الدار الجديدة ما بين العراقة والحداثة ، حتى أن الكاتبة اليوغوسلافية الشهيرة دارا جانيكوفيك، رفيقة سلاح تيتو، قامت بإخراج فيلم تسجيلى عن دار «الأهرام»، وصفتها بأنها «أشبه بمعمل اختبار من أدق معامل العصر المتطورة».
ترك الأستاذ عشقه الصحفى فى الخمسينات من عمره، وذلك لخلافات فى وجهات النظر مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ولكن ذلك لم يمنعه من مناصرة السادات فى مساعيه لمواجهة مراكز القوة التى كانت تريد الإطاحة به. وبكى «الأستاذ» بصدق عندما علم بحادثة المنصة الآثمة واغتيال السادات. وظلت أسرته على تواصل مع السيدة جيهان السادات.
رغم عدم تبوأه أى منصب بعد حقبة «الأهرام» إلا أنه ظل يتابع من قريب ، وعاد إليه عدة مرات قبل رحيله إلى «دار العودة»، ليثرى صحفييه بآرائه وفكره المتميز ورؤيته للمستقبل. وقد باح هيكل للمقربين بأن فراقه للأهرام فى عمر مهنى مبكر، كان له عميق الأثر فى نفسه، ولكنه مع ذلك واصل نهجه فى المناهضة بشجاعة لفكرة «التوريث» و مساندة «ثورات الربيع العربي»، والتحذير من ظاهرة التطرف الإيدولوجى المحسوب على الدين الإسلامي.
ولم يتخل الأستاذ عن نهج الشجاعة، حتى عندما أطلق على هزيمة 1967، مسمى «النكسة»، فقد كان الهدف وفقا للمحللين، التخفيف من آلام الشعب المصرى حتى يتحقق له الثبات نفسيا. لكنه، وذلك على خلاف المعتقد، لم يتدخل فى قرارات «الحراسات» لعام 1961.
ترك «الأستاذ» وراءه إرثا قيما وضخما من الكتابات الموسوعية و الأحاديث والتسجيلات التى تشكل موجها قيما لصحفيى وإعلاميى مصر والوطن العربي. رحم الله الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، الذى كان إنسانا بكل معانى الكلمة ومجاملا إلى أقصى الحدود، حتى فى أكثر اللحظات شدة.
رابط دائم: