شكلت أزمة استقالة رئيس وزراء ولاية «تورينجن» فى ألمانيا، أحدث صور تهديدات «الشعبوية» للدولة ما بعد نهاية عصر«النازية»، خاصة بعد الكشف عن وصوله للمنصب بأصوات حزب «البديل» اليمينى المتطرف، يأتى ذلك فى تأكيد جديد للمخاوف من التنامى المتصاعد للتيار المتطرف، فى ألمانيا أقوى اقتصاد بأوروبا.
وكان توماس كمريش رئيس ولاية تورينجن قد أعلن استقالته من منصبه عقب يوم واحد من انتخابه كمرشح للحزب الديمقراطى الحر، بعد توافق على دعمه ما بين نواب الحزب «المسيحى الديمقراطى» بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل وحزب «البديل» اليمينى، لتصبح تلك المرة الأولى التى يصل فيها مرشح لمنصب رئيس وزراء ولاية ألمانية بدعم من الحزب المتطرف.
وأثار انتخاب كمريش ردود أفعال غاضبة داخل ألمانيا، حيث وصفت ميركل ما حدث فى «تورينجن» بأنه «خطأ لا يغتفر»، مطالبة بإلغاء النتائج وحل برلمان الولاية وإجراء انتخابات جديدة. فى الوقت نفسه، أعلن كريستيان هيرته مفوض الحكومة الألمانية لشئون شرق ألمانيا استقالته من منصبه، بعد طلب من ميركل. كما أكد مايك مورينج زعيم كتلة حزب المستشارة فى برلمان «تورينجن» اعتزامه الاستقالة هو الآخر.
ولم تقف توابع ما وصفته وسائل إعلام بـ«الزلزال» السياسى عند هذا الحد، بل وصل الأمر إلى إعلان أنجريت كرامب - كارنباور رئيسة الحزب المسيحى الديمقراطى انسحابها من رئاسة الهيئة العليا للحزب، إلى جانب عزمها التخلى عن رئاسته وترشحها لمنصب المستشارية فى الانتخابات البرلمانية المقررة العام المقبل 2021.
ويعد إعلان كارنباور مفارقة سياسية تاريخية، حيث أعلنت المستشارة الألمانية ميركل فى أكتوبر2018 التخلى عن رئاسة الحزب وعدم الترشح لمنصب المستشارية لفترة جديدة أيضا، وذلك عقب الخسارة الكبيرة للحزب وقتها فى انتخابات برلمان ولاية هيسن، مقابل الفوز الكبير لحزب «البديل» المتطرف، من ثم ضمانه التمثيل النيابى فى برلمان الولاية الوحيدة، التى لم يكن له أعضاء فى هيئتها البرلمانية.
ومع تسبب الصعود المتنامى للتيار اليمينى المتطرف بشكل مباشر فى الإطاحة بميركل وخليفتها فى رئاسة الحزب المسيحى ومنصب المستشارية، أصبح من الواضح تماما مدى عمق الأزمة السياسية فى ألمانيا، فى الوقت الذى تعانى فيه الأحزاب الكبرى التقليدية التراجع المتتالى لشعبيتها، مما فتح باب التساؤلات حول إمكانية عودة اليمين المتطرف للحكم مجددا، حيث كانت «تورينجن» نفسها شاهدة عام1930على تشكيل أول حكومة محلية بمشاركة النازيين.
الغريب فى الأمر أن سياسة «الباب المفتوح» التى اتبعتها ميركل نفسها تجاه الهجرة واللاجئين، كانت بمثابة الباب الذى سمح لتيار اليمين المتطرف ممثلا فى حزب «البديل» بالدخول إلى الساحة السياسية عام 2013، من ثم تسجيل الحضور القوى بانتخابات برلمانات الولايات بعدها.
وعلى وقع المخاوف التى أثارها ممثلو تيار اليمين المتطرف فى أوروبا بأكملها من خطر اللاجئين، حقق الحزب الفوز فى الانتخابات المحلية فى ساكسونيا وبراندنبورج وتورينجن عام 2014، بينما تفوق فى 2015 بانتخابات كل من هامبورج وبريمن.
كذلك فقد نجح «البديل» أيضا عام 2016 فى الفوز فى بادن فورتمبيرج وراينلاند بفالز، ليصل بعدها إلى الهدف الأكبر والأهم، حيث نجح فى حصد 94مقعدا بالبرلمان الألمانى فى انتخابات عام 2017، ليصبح أول حزب يمينى متطرف يصل إلى «البوندستاج» منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وثالث أكبر كتلة برلمانية.
وإلى جانب الرفض للاجئين، يركز «البديل» فى دعايته على استمرار انقسام المجتمع فى ألمانيا ما بين الشرق والغرب، رغم مرور نحو 30عاما على تحقيق الوحدة، مستغلا فى ذلك الدراسات والإحصاءات التى تشير إلى أن سكان شرق ألمانيا لا يشغلون سوى 1٫7% من المناصب الاقتصادية والسياسية والإدارية العليا فى البلاد. كما أن أجور العاملين فى الشرق أقل منها بالغرب، إلى جانب ارتفاع نسب البطالة التى تصل إلى نحو 6% فى الولايات الشرقية، فى حين لا تتجاوز 4% بالغرب.
وكشف استطلاع للرأى أجراه معهد «امنيد» عن أن حزب البديل يمكنه أن يصبح القوة السياسية الرئيسية فى شرق ألمانيا وفقا لآراء 24% من السكان، بينما سينتخبه 12% فى الولايات الغربية.
لكن على الرغم من ذلك، فإن مشاركة «البديل» فى أى ائتلاف حكومى على مستوى الدولة أو الولايات قوبلت برفض كبير من مختلف الأحزاب، نظرا لسياسة الحزب المتطرفة والمعادية للمسلمين والمهاجرين، وهو ما يتعارض مع مفاهيم الديمقراطية والانفتاح والتعدد الثقافى المنصوص عليها بالدستور.
وبالتوازى مع صعود «البديل» سياسيا، جددت العديد من الأحداث فى السنوات الأخيرة المخاوف من إعادة إنتاج لمشاهد العنف من عصر النازية، خاصة ما بعد حادثة اغتيال المسئول المحلى فى مدينة كاسل المعروف بدفاعه عن اللاجئين فى يونيو 2019، كذلك الهجوم على الكنيس اليهودى بمدينة هاله الألمانية أكتوبر الماضى.
وفى أواخر يناير الماضى، انتقلت المخاوف من تمدد التيار المتطرف إلى الجيش، حيث كشفت تقارير إعلامية عن أن المخابرات العسكرية الألمانية تجرى تحقيقات مع نحو 550جنديا بعد الاشتباه فى انتمائهم للتيار اليمينى المتطرف، إلا أن كريستوف جرام رئيس المخابرات العسكرية رفض، فى تصريحات صحفية، ما وصف بـ «جيش ظل»، قائلا إنه «لم يتم التحقق من وجود مجموعة لديها هدف محدد، وربما تقوم بنشر العنف وتسعى للقضاء على دولتنا».
ورغم مختلف المخاوف، فإن «فضيحة» التحالف مع «البديل» فى «تورينجن» كشفت عن مدى إمكانية التغاضى عنها وخرق ما وصفته المستشارة ميركل بـ«المحظورات»، ذلك مقابل تحقيق مكاسب انتخابية وفقا لحسابات سياسية ضيقة، الأمر الذى يفسر سر ردود الفعل الغاضبة التى شهدتها الأيام الماضية.
كذلك فقد جاءت حادثة «تورينجن» لتزيد من التأكيد على ضرورة عودة الاصطفاف السياسى مجددا فى وجه اليمين المتطرف، مما يعنى بدء الأحزاب التقليدية الكبرى فى العمل على دراسة أسباب تفوقه واستعادة زخمها وشعبيتها من جديد، وذلك قبل انتخابات «البوندستاج» المرتقبة فى 2021، والتى سيحدد نتيجتها خليفة ميركل المنتظر فى منصب المستشارية، من ثم تركيبة الحكومة الجديدة، ومستقبل ألمانيا بعد 16عاما من حكم «المرأة الحديدية».
رابط دائم: