رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رأسمالية الغرب واختلاف الثقافات

محمد على
مصانع الصين

قبل أكثر من عام، نشب خلاف عارض بين مواطنين داخل ناد للقمار فى برلين، أحدهما ينحدر من أصل صينى وتشى ملامحه بذلك دونما لبس، والثانى ألمانى قح. تصاعدت نبرة الخلاف واتهم أحدهما الآخر بأنه «نازي». تدخل مدير النادى لاحتواء الموقف، واعتذر للمقامر صينى الملامح عن وقاحة مرءوسه الآرى موظف الحسابات المتعجرف. وبدا أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد إلى أن علم المواطن ذو الملامح الصينية بأنه ملاحق قضائيا بتهمة طعن مواطن شريف فى كرامته بنعته بأكثر الصفات إيلاما لأى ألماني: النازية.

اختار آى وى وى هذه الواقعة الفردية مدخلا لمقال رأى نشرته صحيفة نيويورك تايمز بشأن اختلاف الثقافات، وتلاشى قدرة الرأسمالية المطلقة على سد الهوة الثقافية بين الشعوب. فالمكسب المادى لا يذيب الفوارق بمفرده، ولن يوحد البشرية تحت لواء منظومة قيمية مشتركة.

سور الصين العظيم

عجز الغرب عن تطويع الصين على مدى عقود مضت فى أوج الحرب الباردة، فقبضة الحزب الشيوعى الحاكم قوية بما يكفى لصد محاولات الاختراق، والتفكيك الهاديء من الداخل وكأنها السور العظيم. وظل السياسيون الغربيون بمختلف توجهاتهم يتهمون سلطات بكين بالشمولية، وانتهاك حقوق الإنسان، وبمجرد أن تبنت الصين سياسة الانفتاح الاقتصادى فى نهاية السبعينيات من القرن العشرين، تلقفت العواصم الغربية الخبر السعيد وبدأت فى ابتكار استراتيجية جديدة تماما تناسب المارد الآسيوى النائم، وتعود بالمنفعة عليها، وهو الأهم. أما الهدف بعيد المدى فبقى على حاله: السيطرة المطلقة، وتحييد الخطر القادم من الشرق، إن وجد.

وهكذا، تدفقت رءوس الأموال والتكنولوجيا الغربية المتقدمة بسرعة على مقاطعات الجنوب الصينى الساحلية فتحولت تدريجيا إلى «مصنع العالم». وفرت الصين الأرض للشركات متعددة الجنسية العملاقة بنظام حق الانتفاع طويل الأجل، والأيدى العاملة الكادحة منخفضة الأجر، فخرجت آلاف المنتجات بعلامات تجارية غربية شهيرة، وبأسعار تنافس كل ما هو يابانى أو كوري. أما الاستراتيجية الجديدة فاعتمدت على بناء طبقة متوسطة ثرية ومنتفعة من أبناء النخبة الصينية الحاكمة وليكن اسمها ما يكون: رأسمالية بخصائص شرقية، أو رواد أعمال واعدون، أو أساطين المال الصاعدون. وتمثل الهدف الغربى بعيد المدى فى تحريك هذه الطبقة المشبعة لتطالب بالديمقراطية على الطريقة الغربية بعد تذويب الاختلافات الثقافية الراسخة، أو دفعها إلى الانزواء. والنتيجة بعد قرابة أربعة عقود: فشل غربى كامل إلى حد يغرى النخبة الصينية الحاكمة بالسخرية بل الضحك الهستيرى بأعلى صوت، وعلى أصحاب الخطة الطموح أن يعكفوا على حساب خسائرهم السياسية !.

كشف الحساب الختامي

ارتفعت دخول الصينيين وتحسنت مستويات معيشتهم باطراد، فتغيرت هيئتهم جذريا، وملامحهم نسبيا. ولم يطرأ تغير يذكر على ميولهم السياسية، أو لعلهم تجاهلوها نهائيا. ولم يشغلوا بالهم كثيرا بطبيعة السلطة الحاكمة. وعلى المستوى الحضاري، بقيت خصائصهم الثقافية المميزة كما هى فى الأغلب الأعم كشعب شرقى ضارب فى القدم. وسرعان ما تحولت شنغهاي، وشنتشن، وقوانجتشو، وتيانجين وغيرها إلى حواضر مالية وتجارية عصرية تضاهى نظيراتها الغربية وتتفوق عليها أحيانا. وبعد تشبع مقاطعات الجنوب، انتقلت رؤوس الأموال الباحثة عن الربح إلى مقاطعة شنجيانج فى شمال غربى الصين لتعمل فى شتى القطاعات الاقتصادية المتاحة. ورحبت سلطات بكين (الشيوعية) بالمشروعات الناشئة هناك آملة أن تخرج السكان المحليين من دوامة الفقر المدقع كما حدث مع أهل الجنوب. وينتمى سكان هذه المقاطعة إلى عرق الإيجور وهم مسلمو الديانة بالميلاد، ويتحدثون لغة هجينة بين الصينية والتركية، ومثلهم كمثل بقية مواطنيهم: عاملون كادحون بالفطرة ويتطلعون إلى مستقبل أفضل، لا أكثر ولا أقل.

دخلت رؤوس الأموال الألمانية إلى المقاطعة وتألقت مصانع إنتاج السيارات، وأصبح القطن المنتج محليا هو المكون الأساسى فى صناعة أفضل أنواع الملابس الرياضية وأشهرها فى العالم، وبأفضل الأسعار. وتحولت شنجيانج إلى المورد الرئيسى لعدد لا بأس به من شركات سلاسل المواد الغذائية الأوروبية الشهيرة (أبرزها نسلة). وبات واضحا أن ثمة اتفاقا ضمنيا بين مسئولى كبرى الشركات الأجنبية وسلطات بكين بشأن أمور تتعلق بالأيدى العاملة. (منخفضة الكلفة، ومتاحة بوفرة، وبلا حقوق تذكر). ومن ثم، تحققت المنفعة الحدية المتبادلة للطرفين، ولم يعترض أحد فى أركان العالم الأربعة لفترة طويلة مضت.

دروس هونج كونج المستفادة

فى يونيو من العام الماضي، خرج شبان جزيرة هونج كونج ذات الحكم شبه الذاتى إلى الشوارع رافضين تشريعا يتعلق بتسليم المدانين جنائيا إلى السلطات المركزية فى بكين. وسرعان ما تحولت المظاهرات إلى موجة غضب ممتدة وعنيفة لأبعد حد. وبطبيعة الحال، ساند الغرب الغاضبين فى مطالبهم برغم شططها، وكأنما حركة تحرر شعبية قد ولدت فجأة فى الإقليم. وفى المقابل، واجهت السلطات الصينية الأمر بكثير من الصبر، وطول البال، وببعض القسوة أحيانا كلما خرجت الأوضاع عن السيطرة فى الشوارع. ثم انكسرت حدة التظاهرات فى بداية العام وعادت الأمور إلى طبيعتها تدريجيا فى أنحاء الجزيرة.

ولم تتأخر الأبواق الإعلامية، ومراكز الفكر والدراسات الغربية طويلا فأطلقت حملة موازية لمساندة أبناء شنجيانج «المضطهدين» فى أقصى الشمال الغربى بهدف استحداث بؤرة جديدة للتوتر السياسى والاجتماعى تستنزف السلطات المركزية لفترة طويلة مقبلة. وهل ولدت مظلمة المجموعة السكانية الفريدة هناك فجأة ؟. بالعودة إلى المدير التنفيذى لأكبر شركة ألمانية لصناعة السيارات فى المقاطعة حول المسألة نفى علمه بأى انتهاكات محتملة لحقوق السكان أو العمالة الكادحة فى مصانعه. بدا الرد طبيعيا فى هذا الاتجاه فقد نشأ نمط من الدبلوماسية الدولية المركبة قبل عقود يعتمد على تحقيق الربح للمستثمر الغربى مقابل إثراء طبقة النخبة الصينية على أمل إطاحتها بالحكم الشيوعى فى نهاية المطاف. ولم يحدث هذا مطلقا. أما ما بقى على حاله فهو ذلك الفراغ الثقافى بين الطرفين والذى عكسته مشاجرة عارضة بين مقامر ألمانى من أصل صينى ومحاسب بنفس الجنسية رفض الانصياع لطلبه دون أن يسبقه بكلمتين: «من فضلك».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق