رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ابنة نهضة 1919 التى حررت الغناء..
ثورة الست

خالد عميرة

  • خلصت الغناء من الرطانة التركية ومن البحة الغجرية ونقلته من العوامات والصالات لكل البيوت
  • منافساتها كن يغنين «ارخى الستارة» و«عصفورى يا أمه» بينما تواجههن بـ«الصب تفضحه عيونه» و«أراك عصى الدمع»




فى عام 1923 (على أغلب الأقوال) غادرت أم كلثوم قريتها لتستقر بالقاهرة، هو العام نفسه الذى توفى فيه سيد درويش عبقرى الموسيقى وقائد ثورتها، وكأن الله لم يرض لمصر أن تظل سماء فنها خاوية بغير «نجم» يملؤها نورا وجمالا، أو أن تعود الغربان لتعشش فيها من جديد، بعد ثورة أطاحت بكل قديم، وصنعت عالما جديدا على كل المستويات.

فإذا كان سيد درويش هو النبع الذى روى ثورة 1919 بفنه وروحه، وهو الجذر الموسيقى الذى قام عليه عودها واشتد، فإن عبدالوهاب وأم كلثوم هما ابنا هذه الثورة.. نبتتها.. ثمرتها.. زهرتها التى امتد شذاها قرابة قرن من الزمان.. وما زال يفوح.

......................................................



كانت مصر فى بدايات القرن الماضى، قبل ثورة 1919، ترزح تحت الاحتلال البريطانى الذى جرف مواردها اقتصاديا، وخنقها سياسيا، وحاول طمس هويتها فنيا وثقافيا، أما الغناء بالتحديد فقد تحققت فيه آنذاك وجهة نظر ابن خلدون الذى كان يرى أنه (الغناء) أول ما ينقطع فى الدول عند انقطاع العمران، بمعنى أن الموسيقى والطرب هما أول ما ينهض مع الأمة إذا نهضت، وأول ما يسقط معها إذا سقطت، وقد تبدى ذلك واضحا فى تلك الآونة، حيث انحصر الغناء آنذاك داخل أروقة القصور، مما استدعى العجمة العثمانية وتطعيم الأغانى ببعض الألفاظ التركية لإرضاء أذواق الباشاوات والهوانم، فشاعت فى الأغانى كلمات مثل «أمان يا لا للى» و»جانم» وغيرهما، كما تقول د.نعمات أحمد فؤاد فى كتابها (أم كلثوم.. عصر من الفن)، ويصف الروائى الكبير خيرى شلبى حال الغناء فى تلك الفترة أيضا، فى كتابه «صحبة العشاق» فيقول: «هنك ورنك ودلع وميوعة وطراوة واسترخاء، ونوع من فراغ النغم، مطرب يردد الآهات كأنه فعلا يدغدغ المشاعر لا لينبهها على نغم جديد، بل ليرقصها ويرنحها فحسب، ومنتهى قدرة المطرب على الخلق والإبداع أثناء الغناء هى التلاعب بالمقامات والدوران حول لحظة مفرغة من المضمون، أى لا تترك فى النفس أثرا يبقى».

ولم يجاوز الغناء أروقة القصور إلا ليستقر فى العوامات والملاهى والصالات بعماد الدين والأزبكية، ليحقق ما تتطلبه تلك الأماكن من ابتذال وإسفاف يهيج الغرائز ولا يسمو بها، حيث يختلط الغناء بالرقص «وأشياء أخرى»، إرضاء لطبقة محدودة ممن يرتادون تلك الأماكن، أو لإرضاء الجنود الإنجليز السكارى فى أثناء شرابهم، فقد «أصبح الغناء مجرد أداة من أدوات مجلس الشراب» كما تقول د.نعمات أحمد فؤاد، وصار لكل مطربة صالتها التى تمتلكها أو تغنى فيها، فمنيرة المهدية فى «الالدراتو»، و»نزهة النفوس»، والست «توحيدة» فى «الف ليلة وليلة»، ومارى جبران فى صالة بديعة مصابنى... وهكذا.

كانت المغنيات حسب وصف د.نعمات غالبا بدينات، يرتدين ثيابا حاسرة تبرق بالترتر والقصب، وكن إلى جانب الغناء يقمن بمهمة أخرى لعلها أكثر أهمية فى نظر أصحاب الصالات وروادها، وهى الجلوس للزبائن وتبادل الشراب معهم بأثمان فادحة، ومن طرائف ذلك العهد التى لا تخلو من مرارة، أن تنشر مجلة «الشرق الأدنى» خبرا مفاده أن المطربة توحيدة (وهى من مشهورات ذلك العصر) وضعت شرطا فى عقد اتفاقها مع مانولى صاحب صالة «الف ليلة وليلة» وزوجها لاحقا ينص على أنه ليس للطرف الأول «صاحب الصالة»الحق فى إرغام الطرف الثانى «توحيدة» على الجلوس مع الزبائن ولا أن تشرب فى الليلة الواحدة أكثر من خمسة أقداح من الكونياك «فقط!!»، وتعلق المجلة: «وهذا الشرط وضعته السيدة المطربة حماية لنفسها وصحتها».

وكان طبيعيا فى تلك الأجواء أن تشيع أغانى «الهئ والمئ»، على حد وصف د.نعمات أحمد فؤاد، وتعتاد الأذن وتتقبل الذائقة التى تم إفسادها بأغان من نوعية «عصفورى يا أمه عصفورى.. أرقص وأورى له أمورى» للمغنيتين والراقصتين اليهوديتين ليلى وقمر، أو «هات الإزازة واقعد لاعبنى» لنعيمة المصرية أو «بعد العشا يحلا الهزار والفرفشة» لمنيرة المهدية... وغير ذلك الكثير.

بدايات الثورة

مع انتهاء الحرب اكتشف المصريون خديعة الإنجليز، تلك الخديعة التى يقول عنها د.عماد أبو غازي: «فى 11 نوفمبر 1918 سكتت المدافع على جميع الجبهات، وانتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء.. كان المصريون ينتظرون نهاية الحرب حتى تنتهى معاناتهم من حرب لم يكونوا طرفا فيها، سقط فى المعارك شهداء من المصريين، وصادرت سلطة الاحتلال دوابهم ومحاصيلهم لمصلحة المجهود الحربى، وتحملت الخزانة المصرية ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه دعما لبريطانيا العظمى فى حربها، لكنهم كانوا ينتظرون على أمل أن ينتهى الاحتلال البريطانى لمصر مع نهايتها مثلما انتهى الحكم العثمانى لمصر مع بدايتها».

كانت آمال المصريين تستند إلى ما قدموه لبريطانيا أثناء الحرب، كما كانت تستند إلى الوعود البريطانية بمنح مصر استقلالها عقب الحرب كما جاء فى رسالة الحكومة البريطانية للسلطان حسين كامل عند تنصيبه مكان الخديو عباس حلمى الثانى، والتى جاء فيها: «قد أصبح من الضرورى الآن وضع شكل للحكومة التى ستحكم البلاد بعد تحريرها»، لكن الوعود كانت مجرد حلقة فى سلسلة أكاذيب المحتل، صدم فيها المصريون كما صدموا فى دولة الخلافة التى اكتشفوا هشاشتها أثناء الحرب، وعدم قدرتها على حماية ولاياتها، أو حتى حماية أراضيها، واكتشفوا كذلك بالتبعية أن مصيرهم صار معلقا فى أياديهم، فنما الحراك السياسى تدريجيا، وثارت المظاهرات على استحياء فى البداية، ونظمت حركات للمقاومة من الطلبة والعمال، وظل الغضب الشعبى يتنامى حتى بلغ ذروته فى عام 1919، الذى قطع الفلاحون خلاله خطوط السكك الحديدية، وخرجت فئات الشعب كافة من طلاب وعمال وموظفين وغيرهم فى مظاهرات ملأت شوارع المدن الكبرى، وتركت النساء مقصورات الحريم ليصطففن مع الرجال فى مواجهة بنادق المحتل.

ولم يكن الفن ليقف موقف المتفرج من هذا النضال الوطنى، فتقدم سيد درويش الصفوف بأعماله الوطنية الخالدة، وأصبحت ألحانه وقودا للثورة، وتحولت كلمات أغانيه لهتافات تصدح بها الحناجر فى الشوارع والميادين، وعاد الغناء «المصرى» الحقيقى لصدارة المشهد على يد درويش ورفيقيه بديع خيرى وبيرم التونسى، ورغم أن درويش لحن العديد من الأغانى قبل 1919، فإن ذلك العام كان أكثر سنوات درويش إنتاجًا، حيث لحن فيه نحو 75 لحنًا، حتى يمكن القول إن درويش صنع مجده الحقيقى خلال سنوات الثورة ما بين 1917 وحتى وفاته فى 1923.

وقد حققت ثورة 1919 نجاحات كبيرة على كل الأصعدة، فعلى المستوى السياسى تمت صياغة دستور 1923، وتم إعلان استقلال مصر «ولو شكليا»، وأجريت انتخابات نيابية حرة، أما على المستوى الاقتصادى فقد تم تأسيس أول بنك وطنى مصرى بشركاته التى غطت صناعة النسيج والسينما والطيران، أما على المستوى الثقافى والفنى فقد حركت الثورة المياه الراكدة، وظهرت أجيال جديدة من الفنانين، كما ظهرت مدارس وأساليب فنية لتواكب حركة المجتمع، ففى الفن التشكيلى كانت الثورة منطلقا أساسيا فى مسيرة ذلك الفن، حيث كان لها الفضل فى ظهور وإبراز الجيل الأول من الرواد، الذين ولدوا فى نهاية القرن الـ 19، ومن أبرزهم، الفنان محمود مختار فى مجال النحت، والفنان محمد ناجى فى مجال الرسم، حيث بدأ محمود مختار العمل على نسخة مصغرة لتمثال نهضة مصر منذ عام 1917 قبل أن يتم الاكتتاب من أجل تنفيذ النسخة الحالية للتمثال الموجودة أمام جامعة القاهرة، كما قام مختار أيضا بعمل تمثالين لسعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية تمجيدا لدوره.

أما محمد ناجى، الذى أنهى دراسته فى أوروبا وعاد لوطنه مع بدايات اندلاع الثورة، فقد أسهم فى الحركة الوطنية المصرية بعدد من اللوحات، ومن أشهرها لوحته الملحمية «موكب إيزيس»، التى تعد من أهم الأعمال التى تعكس الهوية المصرية.

ومسرحيا أسس يوسف وهبى فرقة رمسيس المسرحية عام 1923، كما ظهر الأدب المصرى الحديث بقيادة توفيق الحكيم، وظهرت حركات التمرد على المدرسة الشعرية الكلاسيكية، أما على مستوى الموسيقى والغناء فقد تغيرت ذائقة المستمعين، وبعد أن ذاعت أغنيات سيد درويش الوطنية لم يعد مستساغا العودة إلى أغنيات الخلاعة والميوعة من جديد، لم تعد السوق تتقبل ذلك ولا تستوعبه، لذلك كان لابد من البحث عن أصوات جديدة.. وغناء جديد، وهنا ظهرت أم كلثوم، لتصنع (مع عبدالوهاب) فاصلا بين عهدين، ما كان قبل أم كلثوم.. وما صار بعدها.

الصوت الزعيم

فحين قامت الثورة كانت أم كلثوم لم تزل صبية ترتدى العقال والعباءة، تجوب الموالد وتحيى ليالى الذكر مع والدها وشقيقها (كمنشدين أو صييتة)، لكن مع نجاح الثورة، ولأن كل ثورة تصنع مبدعيها، فقد وصلت أم كلثوم للقاهرة مع بداية العشرينيات، وصلت الست بعد وفاة درويش وبعد نجاح الثورة.. لتبدأ هى ثورتها الجديدة فى عالم الغناء.

لقد بدت القاهرة فى استقبالها للست وكأنها كانت تنتظر هذا الصوت الريفى البكر «ذا المقامات السبع عشرة»، الصوت المفعم بالأصالة والمصرية الخالصة، النقى بطهارة القرآن والإنشاد، فلم يتلوث بالهنك والرنك أو بالرطانة التركية الفارغة ولا بالبحة الجنسية المتهتكة التى كانت المطربات يتفنن فى إظهارها، بل إن بعض المطربين كانوا يفعلون الشيء نفسه، مثل عبداللطيف البنا الذى اشتهر بالصوت المخنث.

كان صوت أم كلثوم، كما وصفه عبدالوهاب، «صوتا زعيما.. لا يمكن إلا أن تستمع إليه حين يتحدث أو يغنى»، وبالفعل قاد هذا الصوت «الزعيم» قاطرة الغناء وثورته منذ عشرينيات القرن الماضى، وظهر ذلك بجلاء فى دنيا الأسطوانات التى زادت مبيعاتها جدا بعد ثورة 1919، وزادت أكثر وأكثر مع ظهور الست.

صراع الجرامفون

ظهرت الأسطوانات فى مصر مع بدايات القرن العشرين «بين عامى 1904 و 1906» عن طريق بعض الشركات العالمية مثل «الجرامفون» و»أوديون» و»بيدافون»، وأسهمت المنافسة الشرسة بين هذه الشركات فى ظهور العديد من الأصوات الجديدة، لكن ظلت تلك المنافسة محدودة فى البدايات، نتيجة عدم انتشار أجهزة تسجيل الأسطوانات فى كل البيوت، واقتصارها على بعض الأثرياء والميسورين فحسب، لكن بعد 1919 انتشرت تلك الأجهزة نسبيا، وتعرف المصريون أكثر على أصوات مطربيهم المفضلين، وهنا اكتسحت أم كلثوم الساحة، فالفن الذى يدخل البيوت له مواصفات خاصة، لم تكن تتوافر لدى المطربات الأخريات، فبينما كانت منيرة المهدية ونعيمة المصرية ورتيبة أحمد وعبداللطيف البنا يغنون «يا أنا يا أمك» و»ارخى الستارة اللى فى ريحنا» و «ما تخافش على أنا واحدة سجوريا»، فإن أم كلثوم دخلت السباق فى مواجهتهن بقصائد «أراك عصى الدمع» و»الصب تفضحه عيونه» و»بحقك أنت المنى والطلب» «بلغت قصائدها 80 قصيدة، كما يقول كمال النجمى فى كتابه «الغناء العربى من الموصلى وزرياب إلى أم كلثوم وعبدالوهاب»، حتى أغانيها العامية كانت راقية الكلمات من نوعية «خايف يكون حبك لى شفقة على» و»إن كنت أسامح وانسى الأسية» التى حققت مبيعاتها أكثر من مليون أسطوانة، فى رقم غير مسبوق ومدهش، خصوصا إذا نظرنا إلى عدد سكان مصر فى ذلك الوقت، لكن الدهشة تزول حين نعلم أن أرقام المبيعات لم تكن تقتصر على مصر وحدها، لكنها تمتد لتشمل أيضا بلاد الشام والعراق.

بعد صراع «الجرامفون» بين أم كلثوم ومنافساتها فى عالم الغناء، وهو الصراع الذى حسمته أم كلثوم باكتساح، جاءت الإذاعات الأهلية ثم الإذاعة المصرية لترسخ مكانة «الست»، وتبسط سيادتها على آذان وقلوب وأذواق الجماهير، ولتصبح أغنياتها نقلة فى عالم الوعى والقيم لدى المصريين، فلم تعد أغانى الحب والغرام سيئة السمعة ولا مستنكرة، بعدما أصبح الآباء يتغنون بها أمام أبنائهم دون خجل، وأصبح الأبناء والبنات يرددون مقاطع منها أمام ذويهم دون أن يستدعى ذلك النهر والنكران، فقد أصبح الحب والهجر بفضل أغانيها مشاعر سامية، لا يخجل منها أحد.. ولا تستدعى أن يخفيها أحد، فكما حررت أم كلثوم الغناء العربى من رطانته التركية وشبقيته الغجرية، «وحققت نصرا ساحقا على طريقة الغناء الغجرى والعثمانى والسوقى العامى» على حد قول كمال النجمى، أطلقت سراحه كذلك من سجن قصور الباشوات وملاهى الحانات والصالات إلى براح الشوارع وحميمية البيوت ودفئها.

ولعل هذا أحد أهم أسباب بقاء صوت الست فى صدارة المشهد الغنائى كل هذه السنوات، وذلك إضافة لأسباب أخرى يشير إليها خيرى شلبى فى كتابه «صحبة العشاق» حيث يقول: «توازنت فى أم كلثوم قوتان: قوة الصوت وقوة الشخصية»، وقد لعبت كل قوة دورها فى خدمة الأخرى، ولعل قوة الشخصية هى التى تجلت فى إصرارها على الالتزام بنوع معين من الغناء، لا تتنازل عنه، وهنا لابد من الإشارة لأمرين يعكسان تلك الفكرة، الأول يتعلق بالشيخ زكريا أحمد، والذى كان يعد أهم ملحنى «الطقاطيق» فى العشرينيات من القرن الماضى، وصاحب أشهر أغنيات تلك الفترة وأكثرها رواجا، ومن ألحانه «ارخى الستارة» و»ما تخافش على أنا واحدة سجوريا» و»تعالى لى يا بطة»... وغيرها، لكن حين قام بالتلحين لأم كلثوم كانت أول ألحانه «اللى حبك يا هناه» فى عام 1931، بعد نحو 8 سنوات من نزولها للقاهرة، ورغم معرفتهما ببعضهما البعض منذ كانت تغنى فى حفلات الإنشاد، ويقال إنه مع الشيخ أبو العلا محمد هما من دفعاها دفعا وألحا على والدها لتدخل معترك الغناء فى القاهرة (كما يشير إلياس سحاب فى موسوعته مع فيكتور سحاب «أم كلثوم.. الأغانى والسيرة»)، هذا يعنى ببساطة أن ما كان يقدمه زكريا أحمد فى تلك الفترة لم تكن أم كلثوم لتقبل غناءه، وأعتقد أن كليهما كان يدرك ذلك، فلم يلتقيا إلا حين وجد الشيخ زكريا ما يناسب هذا الصوت المعجز وتلك «الشخصية»، ليتواصل بعد ذلك إبداعهما معا فى «حلم» و»الأولة فى الغرام» و»أنا فى انتظارك».... وغيرها من العلامات الغنائية الخالدة.

أما الواقعة الثانية فتتعلق بأغنية «الخلاعة والدلاعة مذهبى» التى غنتها فى بداياتها، فى محاولة منها لمجاراة سوق الأسطوانات آنذاك، لكن لأن هذا «الصنف» من الغناء لا يوافق شخصيتها الملتزمة، ذات النشأة الدينية، التى لا تقبل الابتذال، فإنها لم تكرر التجربة، بل قام الشاعر أحمد رامى بإعادة كتابة كلمات الأغنية لتكون «الخفافة واللطافة مذهبى»، لكن حتى ذلك لم يكن ليرضيها، فتجاهلت الأغنية تماما ولم تكررها فى حفلاتها أو اسطواناتها، بل يقال إنها سعت لسحبها من شركة الأسطوانات.

وإضافة لما سبق تبقى نقطتان من الوارد جدا أن يكونا قد ساهما فى بقاء فن أم كلثوم واستمراريته، أولاهما: عدم اختصاص أغنياتها بجنس معين، فبمراجعة سريعة لكلمات أغلب أغانيها «إن لم يكن جميعها»، نكتشف أنها تصلح للغناء من الجنسين وللجنسين، فيغنيها العاشق لمعشوقته، والمحبة لحبيبها، وذلك على العكس من معظم المطربين والمطربات الآخرين، والذين تدور أغلب أغانيهم فى حدود جنسهم ذكرا كان أم أنثى، ولعل ما ساعد الست على ذلك هو طبيعة صوتها المتماوج بين عمق الصوت الذكورى وجهوريته، وحدة صوت الأنثى ورقته.

أما الأمر الآخر الذى منح هذا الصوت العظيم استمراره وبقاءه، فيكمن فى رغبة الست الدائمة فى التجديد و»التجدد»، وعدم وقوفها أمام حركة الزمن، حيث قدمت مع القصبجى وزكريا أحمد والسنباطى أعظم أغنياتها خلال فترة العشرينيات حتى نهايات الخمسينيات، حين قررت أن تفتح لنفسها نافذة جديدة، وتستعين بملحنين أكثر شبابا «بليغ حمدى ومحمد الموجى ثم سيد مكاوى»، ربما يمنحون صوتها الذى أصابه بعض الوهن «وإن لم يفقد كثيرا من جماله»، بعضا من روحهم وحيويتهم، وبالفعل حققت معهم «خصوصا بليغ حمدى»، ومع الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب «الذى لم يفقد شبابه أبدا»، نقلة فنية قربتها من الأجيال الشابة، بفضل أغانيها الأقل طربا والأكثر إيقاعا وسرعة، تلك الأغانى التى منحت الست مزيدا من الاستمرارية والبقاء والتأثير لقرابة قرن من الزمان «حتى عدها المؤرخ الموسيقى كمال النجمى ثلاثة أرباع الغناء».. ولا يبدو فى الأفق مؤشر على قرب انتهاء هذا الأثر.

 

«إن مزية أم كلثوم بعد كل ما سمعته من أغانيها هي أنها المطربة الموهوبة التي أثبتت أن الغناء هو فن عقول وقلوب، وليس فن حناجر وأفواه فحسب. فهي تفهم ما تغنيه، وتشعر بما تؤديه وتعطي من عندها نصيبا وافيا إلي جانب نصيب المؤلف والملحن فيقول السامع بحق.. آه»........................ عباس محمود العقاد


 

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق