فى العامية المصرية المُلهمة استمعنا دون شكٍّ إلى مقولة الأمهات المتهكمة: «فعلًا.. الإحساس نعمة»، إشارة إلى مَن لا يمتلك الإحساس بمشاعر الآخرين، أو شتيمة أحدهم للآخر بأنه يمتلك: «جلد تخين»، أو دعوات أحدهم المازحة للآخر: «يكفيكَ شرّ الجِلد التخين»، إشارة إلى مَن لا يحسُّ على الإطلاق، أى أن جِلده مثل جِلد الخنزير الأكثر سمكًا بين جِلود المخلوقات، حتَّى أنه حين يُضربُ يواصل الابتسام، وفتحتا منخاريه المتجهتان إلى أعلى ترتجفانِ.
.............................
شاهدت فيلم «الإحساس المثالى» perfect sense للمرة الأولى بعد عرضه بفترةٍ، فلقد عُرض فى عام 2011، حين كانت شوارع القاهرة تغلى بناسها، وكانت واجهات دور السينما مهشمة الزجاج أو مغلقة بأبواب حديدية تُشبه قضبان السجون، وكان لا شيء يعلو فى الفضاء على صوت الساسة فى كلِّ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، أو البلطجية الذين صاروا أبطالًا فى أفلامنا. تساءلت وأنا أتابع تتر النهاية: «ماذا لو أن العالم يشاهد الفنون أوَّلًا، أما كان يتجنب كلَّ أنواع العنف والكراهية والتطرف وقوى الظلام»؟!
وفقًا لتصنيف السينما الأمريكية، يُصنف فيلم «الإحساس المثالى» على أنه فيلم خيال علمى، ولو كان الأمر بيدى لتركت هذا الفيلم تحديدًا دون تصنيف، فلا دخل للعلم هنا، حتى إن المخرج لا يتتبع هذه العدوى أو الوباء الذى ضرب البشرَ طبيًّا أو علميًّا طوال أحداث الفيلم ولو بطريقة خيالية، ولكنه يكتفى بتكهنات عابرة لعلماء البيئة كأن يفترض أن ضياع حواس البشر كلها كان نتيجة عملٍ إرهابى أو فيروس غريب أو أنه ببساطة... هكذا ستنتهى الحياة على الأرض. الفيلم إذن قريبٌ من الرؤية الفلسفية، فنحن نعرف أنَّ الإنسان كلما تقدم به العمر يفقد معظم حواسه مثل السمع والشمِّ والبصر، وبالتالى ممكن قراءة الفكرة أيضًا من هذا المنطلق.
تبدأ أحداث الفيلم بفقدان أحد المواطنين لحاسَّة الشمِّ، ثم ينتشر الأمر بسرعة بين الناس فى كلِّ أرجاء الكرة الأرضية. يحاول الجميع فهم ما يحدث له وللبشرية، ويقترب الناس من بعضهم بعضًا؛ ليكتشفوا أن هذه الحاسَّة التى كانوا يظنون أنها بسيطة بل أقل ممَّا يثير انتباههم أو قلقهم، ومن البديهى أن تكون موجودة طالما أن أنوفهم موجودةٌ على وجوههم، هى فى الواقع هبة إلهية كبرى، كما أنها بالإضافة إلى بقية حواسهم ما يميزهم كبشرٍ، وأنها مرتبطة بذكرياتهم: رائحة الخبز والأزهار والأشجار التى ارتبطت بأمهاتهم وطفولتهم، بأوَّل قبلة، وأوَّل جرحٍ صغير إثر مشاجرة فى المدرسة، بأحبّ الناس إلى قلوبهم... تحاول إحدى العازفات أن تترجم كلَّ الروائح المُتاحة للبشرية إلى نغمات موسيقية على آلة الكَمان. تحاول أن تعزف رائحة الطحالب على الشواطئ والمطر وأوَّل الربيع ودخول الليل، وهواء الفجر، وحتى رائحة السماء، ولكن الناس يُصابون باليأس والجنون ولا يقبلون إلَّا باستعادة حاسَّتهم المفقودة.
بطل الفيلم «مايكل»، وقد قام بدوره «إيوان مكريجور» يعمل رئيسًا للطهاة فى مطعم، وبمجرد أن يفقد حاسَّة التذوق بعد فقده لحاسّة الشمِّ حتى يفقد كلَّ أملٍ له فى عمله القائم على هذه الحاسّة، يصرخ صاحبُ المطعم فى وجهه بأنه لم يعد بحاجة إليه أو إلى المطعم؛ لأنَّ الناس سيكفيها أن تلتهم الدقيق والدهون دون طبخ، الدقيق والدهون اللذان يبقيان الجسد حيًّا فحسب، فهم على كلِّ حال لن يشموا رائحة الطعام الشهية، كما أنهم لن يتذوقوا طعمه اللذيذ.
يمكننا ونحن نشاهد الفيلم أن نرتب أحداثه كما نشاء، فالمشهد الأوَّل يبدأ بطرد «مايكل» لفتاة من شقته بعد علاقة عابرة، مبررًا الأمر لها بأنه لا يطيق وجود أحدٍ إلى جواره وهو نائم، ومع نهاية الفيلم يعترف البطل لحبيبته «سوزان» عالمة الأحياء، بأنه تخلى ببساطة عن خطيبته التى مرضت بمرض خطير، فنفر من رائحتها التى كانت تشبه رائحة القبر، وعندما ماتت ودفنها، كان يذهب إلى قبرها؛ لكى يشعر بالذنب، ولكنه لم يكن يشعر لا بالذنب ولا بجريمة التخلى عنها ولا بأى شيء على الإطلاق. وتحكى البطلة له أنها تكره أطفال أختها وتحقد عليهم؛ لأنها محرومة من الإنجاب فهى عاقر، ويضحك الحبيبان وهما يطلقان على نفسيهما: السيد والسيدة «أحمق»، كرمز لحُمق البشرية التى تُضحى بالمحبة والدفء الإنسانى لأسبابٍ تبدو عند الأزمات الكُبرى واهية.
تصف «سوزان» بطلة الفيلم، وقد قامت بدورها «إيفا جرين»، حالة فقدان حاسَّة الشمِّ بأن المرء يشعر قبلها بحزنٍ كبيرٍ، ووحدة، وكآبة، وبأنه سيموت وتلتهم الحشرات جسده، ثم يبكى دون توقف وينهار. ويمكن للمشاهد هنا أن يستنتج أسباب فقدان البشرية لحواسها، فقدنا حاسَّة الشمِّ للأسباب نفسها التى نتجتْ عنها: محبتنا لوحدتنا وأنفسنا، وعدم تعاطفنا مع الآخر، وعدم الشعور به. أو أن فقدان حاسَّة التذوق كان بسبب النهم والجشع. تصف «سوزان» ما يحدث قبيل فقدانها بعدَّة مشاهد منفرة فى المطعم، حيث يأكل الجميع كلَّ ما يقابلهم من طعامٍ: لحوم وأسماك نيئة، دقيق ودهون، ملح، براميل كاتشاب. يأكلون بنهم كلَّ شيء؛ ولذلك كان ولا بدَّ أن يفقدوا هذه الحاسَّة أيضًا، المرتبطة كيميائيًّا بحاسَّة الشمِّ، كما تفسر لنا العالِمة.
يهيمُ الناس على وجوههم فى الشوارع، ويتوقفون عن العمل والطهى والطعام، ويمتنعون عن الذهاب إلى المطاعم العامة، ولكنهم بعد حين، ووفقًا لمقولة الكاتب الفرنسى «ألبير كامو»: «إن الإنسان يعتاد الموتَ والطاعون»، يعودون إلى دعوة بعضهم بعضًا إلى المتنزهات والمطاعم، ويعود «مايكل» إلى عمله؛ ليتفنن فى إسعاد رواد المطعم، فيعدُّ لهم صنوفًا مقرمشة من المأكولات؛ ليستعيض عن الحاستين المفقودتين بالصوتِ، ويستمتع الجميع إلى حين بصليل أدوات المائدة وضوء الشموع الخافت، قبل أن يعودوا إلى الصراخ فى وجوه بعضهم بعضًا من جديد، دون محاولة فهم ماذا يقول محدثهم، حتى يفقدوا هذه المرة حاسَّة السمع.
وقبل أن يفقد «مايكل» نفسه حاسَّة السمع يهين حبيبته بأقذع الشتائم، طالبًا منها أن تخرجَ من حياته، ومحطمًا كلَّ شيءٍ فى بيته من لوحات فنية ودوارق وشاشة تليفزيون، حتى يهدأ، فيصمت كلُّ شيء من حوله، وتظل موسيقى «ماكس ريختر» التصويرية بطلًا حقيقيًّا طوال أحداث الفيلم، حتى إننا نكاد نستمع إلى صوت الصمتِ والخرس، والفقد، والذكريات، والشغف، ومأزق الإنسان الوجودى أثناء رحلته فى الحياة، فهو يريد كلَّ الخير والثروة والمجد والشهرة لنفسه، وفى الوقت نفسه لا يريد أن يكون وحيدًا.
ولو أن المخرج الأمريكى «دافيد ماكنزى» انتبه إلى عدم تكرار المَشاهد وإعادتها بأكثر من طريقة، لتفادى ملل الجمهور ولأصبح الفيلم من الأفلام العظيمة بالفعل، ولكنه استرسل فى تكرار الفكرة الواحدة بعشرات المشاهد الشارحة لها، وكأن المُشاهد لن يفهم رؤيته الفلسفية بعد مشاهدة موقف أو موقفين، مثل مشهد النهم والجشع قبل فقدان حاسَّة التذوق، فلقد جعل العاملين فى المطعم يتناولون كلَّ مخزونهم النيء، ممَّا جعل الأمر يبدو منفرًا وليس معبرًا.
يواصل الناس حياتهم بحاسَّتين متبقيتين، فيتحدثون بالإشارة وتعزف الفرق الموسيقية أغنياتٍ لا يسمعونها، ولكنهم يستأنسون برؤية الآلات الموسيقية؛ ليتخيلوا الموسيقى قبل أن يحلَّ الظلام عليهم فيفقدوا أبصارهم، وبالفعل يفقدون حاسَّة البصر، وهنا نستمع إلى صوت الراوية وهى تصف حالة الحبيبين عند عودتهما إلى بعضهما دون حواس إلَّا حاسَّتهما الأخيرة المتبقية، حاسَّة اللمس... يتعرفان على بعضهما بعضًا، ويحاولان طمأنة كلَّ الأحياء الهائمين على وجوههم، بأن يكونوا قريبين منهما، وأن يبجلوا ويحتضنوا كلَّ الكائنات الحيَّة، ويغدقوا عليها الكثير من المحبة والاهتمامِ، قبل أن يجرفَ الثلجُ الحياةَ بكلِّ أشكالها التى نعرفها من على وجه الأرض.
رابط دائم: