على مسرح معهد جوته بالقاهرة وضمن برنامج «التحريرلاونج» لمهرجان مساحة المستقل.. وفى يوم شديد البرودة من أواخر ديسمبر.. ازدحم المسرح المكشوف بالجمهور لمشاهدة عرض
(فى قفا راجل) الحائز على منحة الناقدة الراحلة د. نهاد صليحة لهذا العام..
ننصت الى الجملة الأولى «خليك جنب اخواتك» تقولها البطلة فيضحك الجميع..تقولها وهى تلقى بقميص نوم جديد اشترته كهدية لنفسها مع اقتراب يوم عيد ميلادها وحلمها القديم بالحب والزواج..ألقت القميص الحريرى الى كومة أخرى من القمصان الجديدة وغير المستخدمة فى نفس الوقت.. فهذه القمصان الناعمة والتى تحمل تفاصيل أنثوية ومزيدا من الدانتيلا..تدخرها الفتاة ليوم الفرح..يوم زفافها..لأيام الحب المستقبلية..لحلم قديم ربما ربته معها منذ أول علامات نضجها..ورغم انها تستطيع أن ترتدى هذا القميص الذى أعجبها فى فاترينة يحدق بها مئات الشباب قبل أن تدخل لشرائه بلهفة غامضة..الا انها تحتفظ به مثل أموال فى خزينة..لكنها أموال ستفقد قيمتها كلما مرعام جديد قبل قدوم الحبيب..ستشف الدانتيلا ويهترئ نسيجها لتتمزق بسهولة كلما حبست أنفاسها فى خزانة لا يصلها الهواء..تماما كما يحدث للأحلام الصغيرة..التى يصيبها القدم والشيخوخة.. فالفتاة التى تحيا فى معضلة العمر الذى يمر..لا تدرى ماذا تريد! فالحبيب يريد علاقة حرة ومفتوحة.. تخيفها الكلمة وترعبها التجربة..تحتمى بصوت أمها الميتة منذ سنوات ربما هربا من وحدتها والتى تلاحقها بالـتأنيب حتى بعد الموت..متى ستنجبين..فالجميع يعرف أن الآلة ستتعطل قريبا..الجسد بوصفه آلة لها مهام محددة.. ستفقد نضارتها قبل أن تفقد قدرتها على انجاب الحياة..وبالفعل وربما من شدة الخوف تتوقف دورتها الشهرية قبل الخامسة والثلاثين..تقول لها الطبيبة انه سن اليأس..فترد بصوت مقهور (بس أنا لسه ما يئست)..الجسد الذى يسير فى مساره البيولوجى المحتوم الى نفاد البويضات..لا يتناسب مع حب المرأة للحياة وأحلامها التى تكبر وتتألق كلما تقدم بها العمر..خطان لا يتفقان على قضيب القطار..بل يتواجهان قبل أن ينفجرا فى حالة شجن تبقى فيها البطلة فى حوار طويل مع النفس..ثم تلجأ فى لحظة ضعف الى عروض الزواج من خلال تطبيقات الانترنت وحين وجدت الرجل المختار كان متحمسا للشقة التى تملكها أكثرمن تحمسه للزواج منها وحين تنازلت وقبلت الزواج بمدير المدرسة الذى يكبرها بسنوات كثيرة والذى يلح عليها دائما..أخبرها أنه لن يعلن الزواج..لتطرده وهى تحاول الحفاظ على كرامتها المهدرة.. قبل أن يفتر حماسها وتنتهى لهفتها فى البحث عن زوج الى الأبد..مع كل هذه الأحداث لا يتوقف صوت الأم الساخر..الأم التى لم تتزوج حبيبها أيضا..تريد لابنتها نفس المصير من التعاسة..نفس الطريق المعتاد.. مجرد رجل «فى قفا رجل» ليضع الجنين فى رحمها..ويلمس الدانتيلا التى حفظتها طويلا..
صوت الأم الميتة والتى تتجسد حضورا على المسرح الممثلة القديرة ماجدة منير..تتحدث بقوة وثقة وكأن صوت الموت أقوى من صوت الحياة فابنتها التى مازالت على قيد الحياة هى التى تهمس وتخبو وتتردد وتحتار بين مصائر متعددة.. أما هى فقد كانت كلماتها ترتطم بالقلب مباشرة فتهز الروح الساكنة ببساطة قبل أن تجلس فوق المنضدة لننتظر تعليقاتها فى شغف..
الممثل خفيف الظل حازم الصواف الذى يؤدى دور الرجل الحبيب والعريس ومدير المدرسة يتنقل بين الشخصيات ببراعة..ويتقن الأدوار كلها كأنه يرتدى فى كل مرة قميصا جديدا بانسيابية واضحة..
البطلة فى دور الفتاة رحاب فوزى تؤدى أداء راقيا..نبرات الصوت الرائقة رغم الحرمان.. تبحث عن الحب ببراءة طفلة..وتبحث عن الزوج برأس مرفوع..وتتقبل صدمة عدم القدرة على الانجاب بثورة غضب على قمصان النوم المكدسة فتقذف بهم فى الهواء، وكأنهم السبب الوحيد لذوبان الحلم..
أما الكاتبة والمخرجة نسرين نور فقد خدعتنا بأنه نص كوميدى من كثرة الضحكات التى تملأ المسرح.. بينما رأيت الفتاة التى تجلس أمامى مباشرة وهى تبكى..وتطبطب عليها يد صديقتها وتناولها منديلا ورقيا قبل أن يلمحها أحد.
رابط دائم: