-
حرب أمريكا والصين التجارية تفيد الاقتصادات الناشئة
يجمع المحللون بيانات اقتصادية مفصلة، ويعكفون على ما تيسر لهم من أخبار إيجابية وسلبية عن اتجاهات السوق، وحركة رءوس الأموال، وأوضاع المنازعات الحربية، بل تغيرات المناخ أحيانا. ثم يطبقون علمهم على ما لديهم كما تعلموا، ويضعون هامشا للخطأ، ويخرجون بتوقعات، فيتحقق بعضها، ويخالف كثير منها ما تأتى به الأيام. فهل أهدروا وقتا وجهدا، أم أن عملهم مفيد بحق وإن خالفت بعض نتائجه الصواب ؟.
يطرح الكاتب الشهير روشير شارما هذا السؤال البسيط بين سطور مقال أفردت صحيفة نيويورك تايمز ثلثى صفحة له، ويتناول أوضاع العقد المقبل الاقتصادية وقد بدأت بشائره قبل أيام، وحتى يجنب شارما نفسه أى حرج محتمل، أو هجوم مبرر، استعرض أوضاع الولايات المتحدة الاقتصادية السيئة مع بدء الألفية الثالثة قبل عشرين عاما، وكيف انقلبت الأمور رأسا على عقب بحلول عام 2011 فانطلق الاقتصاد الأمريكى محطما كثيرا من الأرقام القياسية، ليبدد معظم التوقعات.
عقدان من المتناقضات
فى مطلع الألفية الثالثة، عانت الولايات المتحدة أضعف معدلات للنمو منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واعتبرت بؤرة للتراجع الاقتصادي، بل المصدر الأساسى للأزمة المالية العالمية فى ذلك الوقت. وتوقع المحللون اتجاها نزوليا لأكبر اقتصاد فى العالم ولفترة طويلة مقبلة، استنادا للمؤشرات المتاحة آنذاك. سقطت التوقعات، وانقلبت الموازين، لتشهد الولايات المتحدة فى العقد التالى أداء اقتصاديا مبهرا استمر حتى نهاية العام الماضي، وعادت معه كقوة اقتصادية كبري، وعملاق مالى لا يستهان به، وهو الأهم. فقد سجل الاقتصاد الأمريكى معدلات نمو مستدامة تتخطى بقية الدول الغنية فى العالم، دون أن يمر بمنحنى ركود واحد، وهى سابقة فريدة منذ عام 1850، وفى خلال تلك الفترة، تمكنت الولايات المتحدة من زيادة حصتها باطراد فى الاقتصاد العالمى دون غيرها من الاقتصادات الكبرى الأخرى باستثناء الصين، ونتيجة لهذا، أصبحت البنوك المركزية، والمستثمرون، والمستهلكون العاديون، أكثر ميلا لحيازة الدولار واكتنازه، فسيطرت العملة الأمريكية على التدفقات المالية العالمية أكثر من أى وقت مضي. كما ارتفعت سوق المال الأمريكية بنسبة 200% على الأقل فى العقد الماضي، بينما سجلت أسواق المال الأخرى بما فيها الألمانية والصينية زيادات هامشية. والنتيجة: ارتفاع عدد الشركات الأمريكية الكبري، وفقا للقيمة السوقية، إلى سبع شركات من بين العمالقة العشر فى العالم، مقابل ثلاثة فقط فى عام 2009. واستنادا إلى الأرقام الإحصائية والتاريخ، يمكن القول إن العقد المقبل لن يكون أمريكيا برغم كل ما سبق من إيجابيات!. فالاتجاهات الاقتصادية التى تميز عقدا، نادرا ما تصبغ الآخر، وهى دورة مستمرة منذ نهاية الأربعينيات من القرن العشرين. وللتذكير، فقد وصف الاقتصاد الأمريكى بأنه قصة نجاح مدهشة فى الستينيات من القرن العشرين. وفى السبعينيات، انتزعت الاقتصادات الناشئة هذا اللقب، وحازته اليابان فى الثمانينيات، ثم استعادته الولايات المتحدة مجددا فى التسعينيات. فماذا حدث للباقين ؟.
عودة الاقتصادات الناشئة
تألقت الاقتصادات الناشئة فى بداية الألفية الثالثة، وسادت توقعات بأن القرن الحالى سيكون ملعبها بلا منازع، وخالف الواقع معظم التوقعات. فقد تقلصت حصتها من الاقتصاد العالمى خلال الفترة الممتدة من 2010-2019، باستثناء الصين. ونمت أسواق المال فيها بمعدلات ضئيلة، وصلت إلى الصفر أحيانا، فكان ذلك العقد هو الأسوأ بالنسبة لها منذ الثلاثينيات من القرن العشرين. ويرجع هذا إلى ركون قادة هذه المجموعة من الدول إلى الاسترخاء، مع الإنفاق بسخاء، وبانعدام للمسئولية أحيانا. ونتج عن هذا تراكم ملحوظ فى مديونيات المستثمرين والمستهلكين سواء بسواء، وتضخم فى أسعار الأسهم على غير حقيقتها. والمدهش هنا أن الولايات المتحدة تقف على عتبة هذا كله الآن، أخذا فى الاعتبار تفاقم الدين العام الأمريكي، ومديونيات الشركات الكبري، وتضخم أسعار الأصول المالية بأنواعها.
وفى المقابل، أدركت الاقتصادات الناشئة أخطاءها وبدأت بهدوء فى مراجعة الأداء، فطبقت إصلاحات واسعة النطاق، وخفضت مديونياتها العامة تدريجيا، الأمر الذى يؤهلها للعودة إلى حلبة السباق اعتبارا من العام الحالي. وللمفارقة، فقد تسببت الحرب التجارية الأمريكية الصينية فى عزوف المستثمرين عن ضخ استثمارات فى سوقى الدولتين، ليفضلوا دولا أخرى أصغر اقتصاديا بكثير ومنها: فيتنام، وأيرلندا، والمكسيك، وتايوان، وهولندا.
وداعا للعولمة
تغيرت الأوضاع عالميا خلال العقد الماضي، وسارت الأمور على عكس ما تمنت الولايات المتحدة. فقد أتاحت شبكة الإنترنت وتطبيقاتها اللامحدودة الفرصة أمام رواد الأعمال المحليين، والشركات الصغيرة، والمتوسطة، للوصول إلى المستهلكين مباشرة وبكلفة متدنية من ناحيتى التسويق والإعلان، وفى المقابل، تواجه شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة قيودا خارجية متزايدة، وضريبية أحيانا، بسبب سياساتها الاحتكارية الممجوجة، فأكل ذلك جانبا لا بأس به من أرباحها. وبينما سعت هذه الشركات إلى «عولمة» العالم بصبغه بطابع واحد، والترويج لمنتجات بعينها، أصبحت النوازع القومية والوطنية أكثر بروزا وأعلى نبرة فى دول الاقتصادات الناشئة. فعلى سبيل المثال، باتت الشركات الصينية والهندية تشجع المستهلكين المحليين على شراء منتجاتها وتوفر لهم التسهيلات اللازمة باعتبار ذلك عملا وطنيا جليلا. وتدريجيا، حلت علامات تجارية منتجة محليا محل أخرى أمريكية المنشأ ذائعة الصيت منذ عقود. وبطبيعة الحال، تصبح الأسواق المحلية الأعلى تعدادا بالسكان أكثر ربحية للمنتجين إذا ما نجحت توجهات الترويج «للمحلي» أولا.
الدول الشابة والشركات الصغيرة
تحتل الاقتصادات الناشئة ذات التعداد الأكبر من الشباب قائمة الدول المرشحة للتألق فى العقد الحالى وفى مقدمتها: مصر، والمكسيك، وإندونيسيا، والفلبين، كما تميل كفة النجاح لمصلحة الشركات الأصغر حجما والأدنى قيمة من الناحية السوقية، فشركات التكنولوجيا المتقدمة الأمريكية التى تتخطى قيمة إحداها السوقية 200 مليار دولار لم تعد أكثر ربحية مقارنة بشركات التطبيقات الإلكترونية البسيطة، وتوفر هذه الشركات باقة واسعة من الخدمات، منها: الدفع الإلكتروني، والتحصيل، والتأمين، والحوسبة السحابية، للمستهلكين على نطاق واسع وبكلفة بسيطة تناسب رواد الأعمال الشبان، والشركات الناشئة الواعدة، كما نجحت هذه الشركات فى استغلال مزايا الإنترنت الأخرى لبناء أقسام كخدمة العملاء، وسداد الفواتير، بأقل كلفة ممكنة وبأدنى عدد من الأفراد فتضاعفت ربحيتها من جديد، وهنا تعجز الشركات الكبرى عن المنافسة.
وبرغم هذا كله، مازالت الولايات المتحدة مرشحة للبقاء على القمة فى العقد الحالي، فالسوق الأمريكية مازالت تشكل أكثر من 50% من القيمة الكلية لأسواق المال العالمية، وشركاتها الكبرى تواصل التوسع، ولكنها لن تبقى بمفردها هناك، فالدول الناشئة والشركات الأصغر حجما فى العالم سيتألق نجمها فى الأعوام القليلة المقبلة، ولتتغير مقولة «الأكبر هو الأفضل على الدوام». لتكون «الأصغر أكثر جمالا» !.
رابط دائم: