توشك علاقات مصر وبريطانيا أن تدخل مرحلة جديدة تتسع فيها مساحة الاتفاق ويضيق تأثير الخلافات... يقول البريطانيون إن سجلهم يبرهن على حرصهم على دعم الاستقرار فى مصر «لأنه صب فى خدمة مصالح الأمن الوطنى البريطانى».
وتأكد هذا الحرص بعد مراجعة استراتيجية أجريت عام 2015 لسياسة الدفاع والأمن البريطانية. ووضعت مصر ضمن قائمة الأولويات.
كانت إحدى مخرجات هذه المراجعة إنشاء صندوق «صندوق الصراعات والأمن والاستقرار» فى العام نفسه وبتوجيه مباشر من مجلس الأمن الوطنى البريطاني، الذى أعطى أيضا اهتماما ملحوظا لسياسة المعونات الخارجية البريطانية.
وهذا الصندوق مكون رئيسى ضمن خطة تنفيذ «عقيدة الاندماج»، التى أرساها مارك سيدويل، مستشار الأمن الوطنى البريطاني.
وهذه العقيدة تؤمن، عمليا وليس نظريا فقط، بأن الصراعات فى عالم اليوم «لا تراعى الحدود»، ومن ثم فإنه «من مصلحة الجميع مساعدة العالم كى يكون أكثر سلما واستقرارا ورخاء».
ووضع للصندوق هدفين أمنيين رئيسيين هما: تعزيز نفوذ بريطانيا فى العالم، وحماية الشعب البريطانى ومصالحه.
أما أهدافه، فى مجال المعونات، فتشمل: تعزيز السلام والأمن وطريق الحكم الرشيد فى العالم، وتعزيز قدرة بريطانيا على التعامل مع الأزمات ثم التغلب على الفقر المدقع ومساعدة الفئات الأضعف فى العالم.
ولتنفيذ هذه الأهداف الخمسة، رصدت ميزانية قدرها 1٫3 مليار جنيه إسترلينى بمشاركة 12 وزارة ووكالة وهيئة حكومية، وتابع تنفيذ 90 برنامجا، فى مختلف المجالات، فى 70 دولة.
وكما يقول البريطانيون، فإن استفادة مصر من الصندوق هى أحد الشواهد على دعم بلادهم لمصر، خاصة فى القطاعات الحيوية.
وعندما صمم «برنامج مصر»، الذى كلف الصندوق بمتابعته، انطلق من تصور يقول إن : «مسار مصر المستقبلى مهم للمصالح الاستراتيجية للمملكة المتحدة».
فى شرح هذه الأهمية، يُنظر إلى مصر على أنها «دولة كبيرة مساحة وسكانا فى منطقة مضطربة» لا يجب المخاطرة بالسماح لها بأن تنزلق إلى الفوضى، وهذا يعنى أنه لا يمكن المغامرة بتركها تواجه مشاكلها، خاصة الاقتصادية، وحدها.
وبعد مشاورات مطولة بين الأجهزة ذات الصلة فى بريطانيا وتلك التى أجريت مع السلطات المصرية، تم الاتفاق على اعتبار «الاقتصاد والتعليم والتنمية الاجتماعية» مجالات التركيز «الحيوية للاستقرار والأمن المستقبلى فى مصر».
وحسب معلومات «الأهرام»، فإن برنامج الدعم البريطانى لمصر، تم تصميمه بعد دراسة شاركت فيها عدة وزارات وأجهزة أمنية بريطانيا لمنطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة. وبعد هذه الدراسة، أجرى عدد من التحليلات التى أعدت خصيصا لرئاسة الوزراء.
وأحد هذه التحليلات أجرى عام 2017 وشمل «تقييما مشتركا - أسهم فيه عدد من الأجهزة والوكالات والوزارات والسفارات البريطانية فى المنطقة - للصراعات والأمن.
وبعد عام واحد (2018) جرى تقييم بريطانى آخر لتحديد متطلبات ومشكلات التنمية فى مصر.
وتؤكد المعلومات، أنه بعد دراسة نتائج هذه التقييمات، أجريت مراجعة شاملة بطلب من رئاسة مجلس الوزراء «شملت دراسات فى مجالات السياسة والأمن والاقتصاد فى مصر» وشارك فيها فريق متخصص فى شئون مصر فى صندوق الصراعات والأمن والاستقرار.
وانتهت كل هذه المشاورات والتقييمات والدراسات إلى التالي:
أولا: أن تشكل مساعدات التنمية الرسمية البريطانية لمصر النسبة الاكبر (نحو 98 فى المائة) من ميزانية برنامج مصر ضمن صندوق الصراعات والأمن والاستقرار.
ثانيا: الغرض الأساسى هو تخفيف حدة الفقر، تنفيذا لالتزام بريطانيا بالمساعدة فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة التى حددتها الأمم المتحدة. ويأمل البريطانيون أن يساعد هذا الحكومة المصرية فى تنفيذه «رؤية 2030». ومن أهم أهداف هذه الرؤية، التى يدعهما البريطانيون، تحقيق السلم والعدالة وتقوية المؤسسات وتوفير فرص عمل لائقة للشباب المصرى وتحقيق التنمية الاقتصادية المستمرة ورفع مستوى جودة التعليم وخفض أشكال اللامساواة فى مختلف المجالات وتحقيق المساواة بين الجنسين.
ثالثا: رصد ميزانية قدرها 13 مليونا و650 ألف جنيه إسترلينى لبرنامج مصر فى صندوق الصراعات والاستقرار والأمن بهدف تنفيذ مشروعات «تركز بالدرجة الأولى على الاقتصاد والتعليم والتنمية الاجتماعية»، إذ تحصل المشروعات فى هذه القطاعات على نصف الميزانية المرصودة.
ويدرك البريطانيون حساسية المصريين تجاه المعونات الخارجية، ودائما ما يقولون إنهم يحترمون هذه الحساسية ولا يقدمون أى معونات إلا من خلال الجهات المصرية المختصة أو بعلمها، ولذا فالجهات البريطانية التى تشارك فى متابعة هذه المشروعات فى مصر هى وزارات الخارجية، والتنمية الدولية، والدفاع، والداخلية. وتشرف الخارجية البريطانية مباشرة على متابعة المشروعات فى كل القطاعات فى مصر.
ويبلغ عدد هذه المشروعات 12 مشروعا، ومن أهمها:
أولا : الشراكة الاقتصادية مع البنك الدولي، ويشارك فيه عدد من الأطراف المصرية والدولية، وتبلغ ميزانية المشروع، من الجانب البريطاني، 4 ملايين جنيه إسترليني، وهو مستمر منذ عام 2017 ويشرف على تنفيذه البنك الدولي.
ثانيا: تطوير التعليم. وتبلغ قيمة إسهام بريطانيا فيه 4٫97 مليون جنيه إسترليني، ويشرف عليه صندوق الطوارئ الدولى لمساعدة الأطفال بالأمم المتحدة «اليونيسف».
ثالثا: نظام لتسجيل طالبى اللجوء ومكافحة الهجرة غير النظامية، وتبلغ ميزانيته ( بين عامى 2019و2022) 800 ألف جنيه إسترليني، بإشراف مفوضية الأمم المتحدة للاجئين وجمعية سانت أندروز لخدمات اللاجئين، وهى منظمة أهلية.
وتعتبر بريطانيا نفسها تتمتع بـ»ميزة نسبية مقارنة بالآخرين» فى مجالات الدعم الرئيسية لمصر، وأهمها العلاقات التى يقول المسئولون البريطانيون إنها «تزداد إيجابية من الحكومة المصرية».
فى المجال الاقتصادي، تقول الحكومة البريطانية إنه «توفر الدعم لتحقيق نمو اقتصادى شامل يستفيد منه الجميع فى مصر، وتحسين بيئة الأعمال والمشروعات، وخلق الوظائف، كما تعطى أهمية لحصول مصر على اعتراف دولى بتحسن جودة الحوكمة، بما يضمن مكافحة الفساد بكفاءة. وفى هذا السياق، تدعم بريطانيا البحوث الاقتصادية، فقد رصدت 300 ألف جنيه إسترلينى لدعم مساعى المركز المصرى للدراسات الاقتصادية فى الفترة بين عامى 2017 و2020. كما منحت نصف مليون جنيه إسترلينى لمشروع تنفذه الجامعة الأمريكية فى القاهرة فى قطاع الإصلاح.
إضافة إلى ذلك رصدت بريطانيا نصف مليون جنيه إسترلينى أخرى لمشروع باسم «بداية مصر» وتنفذه «المؤسسة المالية الدولية» بمشاركة عدة جهات فى الفترة بين 2017 و2020، وهذه المؤسسة شريكة للبنك الدولى ومتخصصة فى مجال تنشيط وتمكين القطاع الخاص فى الدول النامية.
وفى مجال التعليم، تبنى بريطانيا على سمعتها العالمية فى تطوير المناهج وتدريب المدرسين، بما يضمن إتاحة فرص التعليم ذى الجودة العالمية لأكبر عدد من المصريين، وزيادة كفاءة رأس المال البشري، بما يعزز القدرة على المشاركة فى الاقتصاد.
ويعتبر الصندوق برامجه فى مصر نموذجا لأنشطته الناجحة، ويفخر بأنه لعب دورا فاعلا فى إقناع البنك الدولى بضخ استثمارات قيمتها نصف مليار دولار فى إصلاح قطاع التعليم فى مصر بداية من شهر سبتمبر عام 2018 .
والضلع الأخير فى مثلث ضمان الاستقرار فى مصر، كما تراه بريطانيا، هو «التنمية الاجتماعية».
وحسب الرؤية البريطانية، فإن هذه التنمية تتحقق بدعم الإصلاح الحكومى وتقوية المجتمع المدنى والدعم المباشر لمنظمات المجتمع المدنى بهدف التغلب على أشكال عدم المساواة والتهميش والفقر المدقع. ويدرك البريطانيون أهمية تقوية شبكات الأمان الاجتماعي.
وتشمل إسهامات بريطانيا فى إنشاء وتفعيل هذه الشبكات: تمكين الجهات المصرية المختصة من امتلاك القدرة على تصميم برامج حماية وطنية فاعلة، وزيادة المؤسسات ذات الطابع الاجتماعى على المساهمة فى تحسين أحوال الناس المعيشية واستنهاض قدرات المجتمع على احتواء الأشخاص الذين يفكرون فى الهجرة وتمكينهم من إيجاد فرص عمل للعدول عن فكرة الهجرة، ويتضمن برنامج مصر أيضا دعم حملات إعلامية لتوعية الناس ، خاصة الشباب، بمخاطر الهجرة غير المشروعة.
وفى حالة سير «برنامج مصر» حسب الخطة الموضوعة المتفق عليها بين السلطات المصرية والبريطانية، فإن هناك أملا كبيرا فى أن تزيد قدرة مصر على تحقيق حلمها في: تطبيق الإصلاحات الهكيلية التى لا غنى عنها فى تحقيق النمو الشامل وخلق فرص العمل وتفعيل مشاركة الجميع فى النهوض فى الاقتصاد والاستفادة منه، وتنفيذ أجندة إصلاح التعليم برمته بما يجعله أكثر فاعلية من خدمة الاقتصاد والمجتمع، وأخيرا القضاء على التفاوت والتهميش وتقوية المجتمع المدني.
رابط دائم: