رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

استخدام القوة

وليم كارلوس وليامز ترجمة: عبد السلام إبراهيم

وليم كارلوس وليامز« 1883-1963« شاعر وروائى وقاص أمريكي، وكاتب مقالات، مارس مهنة الطب فى نيو جيرسي. كتب الشعر فى البداية بالأسلوب التصويري، ثم كتب بعد ذلك بالأسلوب الموضوعى الذى يحاول أن يقدم الموضوعات بدون تفسير أو عواطف. نشر مجموعته القصصية بعنوان«الحياة على نهر باسيك« 1938 ونشر مجموعته الشعرية بعنوان قصائد« عام 1909، و«الربيع والجميع« عام 1923، و«قصائد مختارة« عام 1934، و«آدم وحواء والمدينة« عام 1936، كما كتب رواية«الرواية الأمريكية العظيمة« عام،1923 ونشر مجموعته القصصية«سكين الأزمنة وقصص أخري« عام 1932، ورواية«البغل الأبيض «1937.



كانوا زبائن جددا بالنسبة لي، كل ما أعرفه عنهم هو الاسم عائلة«ولسن«، من فضلك أسرع بالحضور بقدر المستطاع فابنتى مريضه جدا.

عندما وصلت قابلتنى الأم، ذات وجه ضخم متجهم، لكنها نظيفة جدا، تختلط عبارات الاعتذار بكلامها. قالت : هل أنت الطبيب؟ ثم ما لبثت أن دعتنى بالدخول. بينما كانت تسير خلفى أضافت : يجب أن تلتمس لنا العذر أيها الطبيب لقد آتينا بها إلى المطبخ حيث الدفء، لأن الجو فى الغرف يكون رطباً فى بعض الأوقات.

كانت الطفلة ترتدى ملابسها بالكامل، تجلس فى حِجر أبيها بالقرب من منضدة المطبخ. حاول النهوض لكننى أشرت له بألا يزعج نفسه. خلعت معطفى ثم بدأت أقوم بالمهمة. ألحظ أنهم كانوا متوترين جدا، يحدجوننى بنظراتهم من أسفل إلى أعلى بارتياب، كالغالب فى بعض الحالات، لم يخبرونى بأى شئ إلا أنهم كانوا مضطرين..وكان ردى عليهم دائماً أنهم يدفعون لى ثلاثة دولارات لهذا السبب.

كانت الطفلة تلتهمنى بعينيها الباردتيَّن الثابتتيَّن، بينما لم تبدِ أى تعبير على وجهها فى نفس الوقت. لم تتحرك، وكانت تبدو هادئة داخليا، كانت شيئاً صغيراً جذاباً، قوية مثل البقرة الصغيرة فى المظهر الخارجي. لكن كان وجهها متوهجاً، تتلاحق أنفاسها، أدركت على الفور أنها تعانى من حمى شديدة، كان لديها شعر أشقر طويل وغزير، تبدو مثل صور الأطفال التى تظهر فى ملصقات الدعاية وأقسام التصوير الضوئى فى صحيفة« الصنداي« .

تعانى من الحمى منذ ثلاثة أيام، بدأ الأب يتحدث، ولا نعرف من أين جاءتها العدوي، لقد أعطتها زوجتى بعض المسكنات مثلما يفعل بعض الناس كالمعتاد. لكن ذلك لم يحرز تقدماً فى حالتها، فيوجد كثير من الأمراض الشائعة. عليك أن تفحصها وتخبرنا بحقيقة مرضها.

كما يفعل الأطباء غالباً قمت بمحاولة تجريبية كنقطة بداية : هل تعانى من احتقان فى الحلق؟

أجابنى الأبوان معا : لا، فهى تقول أن حلقها لايؤلمها.

كررت أمها السؤال : هل هناك ألم فى حلقك؟ لكن تعبيرات البنت لم تتغير، كما أنها لم تحرك عينيها بعيدا عن وجهي.

هل فحصتها؟

أجابت الأم : حاولت لكننى لم أر شيئا..

كما يحدث دائماً حصلنا على معلومات تقول إن هناك حالات كثيرة أُصيبت بالدفتريا فى المدرسة التى تذهب إليها ابنتى خلال هذا الشهر، وكنا نفكر كثيراً فى هذا الموضوع بالرغم من أنه لم يُعلن عن هذه الإصابات.

قلت : حسناً من المفترض أننى سألقى نظرة على الحلق . ابتسمت بسبب طريقتى المهنية العالية، ثم سألت عن اسم البنت الأول. قلت : تعالى يا ماتيلدا، افتحى فمك، فسألقى نظرة إلى حلقك.

لم يحدث شيئ..

بدأت ألاطفها : آه، تعالي، افتحى فمك على قدر اتساعه، ودعينى أنظر. أردفت، انظري، ثم فتحت يدى باتساع، لا أمسك شيئا فى يدي، افتحى فمك ودعينى ألقى نظرة.

تدخلت الأم فى الحديث وقالت : إنه شخص لطيف، انظرى كم هو رقيق معك، نفذى ما يأمرك به، فلن يؤذيك.

فى تلك اللحظة جززت على أسنانى باشمئزاز، لو أنهم لا يستخدمون كلمة« يؤذي« فيمكننى أن أذهب إلى أى مكان. لكن لن أسمح لنفسى أن أتسرع أو أنزعج، بل واصلت حديثى بهدوء ثم اقتربت ببطء من الطفلة. عندما حرَّكت الكرسى مقترباً منها، نشبت كلتا يديها، اللتين تشبهان مخالب القطة بحركة غريزية، فى عينيّ بل إنهما لامستاهما بالفعل. فى الواقع لقد صدمت نظارتى التى طارت بعيداً ثم وقعت متدحرجة بعيداً على أرضية المطبخ. لكنها لم تنكسر.

استدار الأبوان فى ارتباك وعتاب ثم قالت الأم : أنت بنت وقحة، ثم جذبتها وهزَّتها من ذراعها، انظرى ماذا فعلت.. هذا الرجل اللطيف..

تدخلت فى الحديث وقلت : بحق السماء لاتطلقى عليً رجل لطيف أمامها، أنا موجود هنا لكى أفحص حلقها خوفاً من أن تكون قد أصيبت بالدفتريا، ومن الممكن أن تلقى حتفها بسببها، لكن ذلك لم يحرك ساكنا. قلت للبنت : سأفحص فمك فأنت كبيرة لدرجة أنك تفهمين ما أقول، هل ستفتحين فمك بنفسك أو سنقوم، نحن، بفتحه؟

لم تتحرك، حتى تعبيرات وجهها لم تتغير، بينما أنفاسها تتلاحق. ثم بدأت المعركة .. كنت مضطراً لشنها. لكى أعمل مزرعة للحلق لوقايتها. لكن فى البداية الأمر يعود إليهم. شرحت لهم مكمن الخطر لكننى أخبرتهم أننى لن أصر على فحص الحلق طالما أنهم يتحملون المسئولية.

قالت لها الأم بلهجة عنيفة : إذا لم تنفذى ما يأمرك الطبيب فستذهبين للمستشفي.

آه، نعم ..اضطررت أن ابتسم لنفسى فبالرغم من كل ذلك دخلت تلك البنت المزعجة والمتوحشة قلبي، لقد أُهِينا أمامي. ففى الصراع القادم ازداد إذلالاً ومهانة وإنهاكا بينما ارتقت هى أعلى درجات الغضب الجنونى بسبب خوفها المتنامى مني.

لقد فعل الأب كل ما فى وسعه، كان بنيانه ضخماً، لكن كونها ابنته، وخجله من سلوكها، وخوفه من إيذائها جعله يطلقها من قبضته فى اللحظة الحرجة مرات كثيرة عندما كِدت أُحقق تقدماً. حتى أننى أردت أن أقتله. لكن خوفه أيضا من أنها ممكن أن تصاب بالدفتريا جعله يطلب منى الاستمرار فى الفحص، مواصلته بالرغم من أنه بدأ يشعر بالغثيان، بينما راحت الأم تزرع المطبخ جيئة وذهاباً، رافعة ..خافضة يدها محاولة استيعاب الصراع.

قلت له بلهجة آمرة : ضعها أمامك فى حجرك، وقيدها من رسغيها.

لكن بمجرد أن قيدها أطلقت الطفلة صرخة : لا تقيدني، أنت تؤذيني، أطلق يديً، أقول لك أطلقهما. ثم صرخت برهبة وهستيريا : أوقف ذلك الفحص، أوقفه، أنت تقتلني.

سألت الأم : هل تعتقد أيها الطبيب أنها ممكن أن تحتمل الفحص؟

قال الزوج لزوجته : اخرجى من هنا، هل تريدينها أن تموت من الدفتريا.

قلت: هيا ..أمسكيها.

قبضت على رأس الطفلة بيدى اليسري، ثم حاولت أن أدخل خافض اللسان الخشبى فوق اللسان، بين أسنانها. قاومت بأسنانها التى كالمسامير بيأس. لكن الآن، بدأت أغضب من الطفلة، حاولت أتمالك نفسى لكن لم أستطيع. أعرف كيف أجهز نفسى للفحص. وفعلت كل ما فى استطاعتي. أخيراً وضعت خافض اللسان الخشبى خلف أسنانها، ومن خلال تجويف الفم. فتحت فمها للحظة، لكن قبل أن أستطع أن أرى شيئاً. أطبقت ثانية بضروسها على خافض اللسان، ثم قطعته إلى قطع صغيرة قبل أن أفلته من فمها.

صرخت الأم فى ابنتها : ألا تخجلين من عمل ذلك أمام الطبيب.

قلت للأم : احضرى لى ملعقة ملساء، سأفحص بها. بدأ فم الطفلة يُدمي، جُرح لسانها، بدأت تصرخ صرخات هستيرية مذعورة. ربما كان عليّ أن أكف عن ذلك وأرجع بعد ساعة أو أكثر، فبلا شك سيكون الأمر أفضل من الآن. لكن رأيت طفليَّن على الأقل ميتيَّن بسبب الإهمال فى تلك الحالات. أدركت أننى يجب أن أقوم بالفحص الآن، وإلا لن أقوم به مرة أخري. لكن أسوأ ما فى الأمر كان لديّ بعد نظر. كان يمكننى أن أعذبها بسبب غضبي، وأستمتع بذلك. كان شيئاً ممتعاً أن أهاجمها.كانت قسمات الغضب ترتسم على وجهي.

يجب أن نحمى تلك الطفلة المزعجة الملعونة من غبائها. فأحيانا أردد تلك المقولة. كما يجب أن نحمى الآخرين منها. فتلك ضرورة اجتماعية. وكل تلك الإجراءات صحيحة. لكن بسبب الغضب الأعمي، وذلك الإحساس بعار الكبار، تولَّد لديّ ذلك الاشتياق لاستخدام العضلات فهى ستكون الحاسمة. يجب أن أستمر للنهاية.

فى هجوم نهائى مباغت انقضضت على رقبة الطفلة وفكيّها. أدخلت الملعقة الفضية الثقيلة عند قاع أسنانها عنوة. ثم تدريجياً عند حلقها حتى تقيأت. وهناك .. كانت اللوزتان قد غُطِيتا بالصديد. لقد قاومت ببسالة لكى تبعدنى من أن أعرف سرها. فقد أخفت احتقان الحلق لمدة ثلاثة أيام على الأقل، وكذبت على والديها لتهرب من ذلك الفحص.

من المؤكد أنها ثائرة الآن. كانت فى موقف دفاعى من قبل، لكن الآن قامت بالهجوم محاولة أن تتحرر من قبضة أبيها.. وتقفز منقضة عليّ، بينما كانت دموع الهزيمة تعمى عينيها.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق