لم يكن خطاب التهنئة بالعام الجديد فى فرنسا ،شبيها بخطابات المناسبات السابقة فى مجمله ،حيث أكد الرئيس إيمانويل ماكرون خلال خطابه للفرنسيين أنه لا تراجع عن مشروع إصلاح أنظمة التقاعد، وذلك على الرغم من الإضرابات التي نظمها اتحاد العمال وتسببت فى شلل بمرافق ومواصلات فرنسا منذ ديسمبر الماضى احتجاجا على هذا المشروع.واعتبرمعارضو ماكرون خطابه بمثابة إعلان حرب عليهم، وتحديا رافضا لمطالبهم ،بالرغم من تعهده بمراجعة نظام المعاشات، ومطالبة حكومته بتسوية سريعة مع نقابات العمال ، دون الخروج عن المبادئ التي وضعت لإصلاح قانون المعاشات.وتعد هذه الأزمة أكبر تحد يواجهه الرئيس الفرنسى بعد احتجاجات «أصحاب السترات الصفراء»التى اندلعت عام 2018.
وفى محاولة لإقناع المحتجين بمشروع الإصلاح ،طبق ماكرون مقولة «أبدأ بنفسك» واتخذ قرارا هو الأول من نوعه فى تاريخ فرنسا وهو التنازل سلفا عن المعاش التقاعدى، الذي يبلغ 6222 يورو شهريا، الذى يحق له أن يتقاضاه كرئيس سابق للجمهورية عندما يغادر قصرالإليزيه،ويأتى تمسك ماكرون بتطبيق مشروعه ،انه يندرج ضمن التزامه بتحويل فرنسا إلى «بلد أكثر قوة وأكثر عدلا وأكثر إنسانية» . كما أعلن ماكرون فى خطابه الأخير،والذى استعرض فيه انجازاته الإصلاحية التى تحققت على مدى عامين ونصف العام ،واعتبرها ازدهارا لم تشهده فرنسا منذ فترة طويلة،أن ما يشجعه على مواصلة المشروع الذى اعتبره عادلا وتقدميا من الناحية الاجتماعية أنه نظام موحد، وهو أبعد ما يكون عن النظام الحالي، مشروع يساوي أكثر بين الجميع. وقال ماكرون «نريد أن يحصل الجميع على راتب تقاعد مشرف، خاصة هؤلاء «المنسيين» في النظام الحالي، مثل المرأة التي تحصل على راتب تقاعد في المتوسط أقل مرتين من الرجل، والتجار والحرفيين والمزارعين الذين لا يحصلون في نهاية خدمتهم سوى على بضع مئات من اليورو». وأكد أن المشروع قوى وسيصمد على مر الزمان.
واحتجاجا على إصلاح أنظمة التقاعد خرج نحو 800ألف شخص إلى الشارع مما تسبب فى مواجهات عنيفة بينهم وبين الشرطة فى عدة مدن ، ورفع المحتجون لافتات كتب عليها «ماكرون إرحل» و«لا تمس معاشات تقاعدنا».وتتعامل اتحادات العمال مع هذا المشروع بنفس المنطق الذى استخدمته فى عام 1995، عندما واجهت محاولات سابقة لإصلاح المعاشات،اقترحتها حكومة الرئيس الأسبق جاك شيراك ، بالاحتجاجات والاضرابات التى استمرت عدة أسابيع ،مما اضطر الحكومة للإذعان لمطالب اتحادات العمال وانتهت محاولات الإصلاح بالفشل .
ومن بين أبرز تفاصيل مشروع إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، إنهاء «أنظمة التقاعد الخاصة» التى يبلغ عددها 42 نظاما ودخول النظام الجديد، وهو «نظام شامل»، حيز التطبيق في 2022، ولن يشمل الفرنسيين الذين ولدوا قبل عام 1975. وسيرتكز نظام التقاعد الجديد على نظام «النقاط»،أى أن كل ساعة من العمل يقوم بها شخص ما سيتم احتسابها بالنقاط، وقيمة «النقطة» سيتم تحديدها من قبل الشركاء الاجتماعيين (النقابات العمالية والجمعيات التي تمثل أرباب العمل)،فضلا عن منح 1000 يورو كحد أدنى للمعاش لجميع المتقاعدين. وتتضمن خطة الإصلاح تحديد سن التقاعد عند 64 عاما،حتي يمكن للمتقاعدين الحصول على معاش كامل، وبإمكانهم وقف العمل قانونيا عند بلوغهم 62 عاما، وهو ما تعارضه النقابات بشدة. على اعتبار أن العمال سيحصلون على حقوق معاشات تقاعدية مخفضة إذا تقاعدوا قبل سن 64. والخلاف حول سن التقاعد الجديد كان سببا لنقل الكونفيدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل إلى فريق المعارضين، إذ اعتبرت أن هذا الإجراء «غير مقبول».
وفي الوقت الذي رفضت فيه حكومة ماكرون دعوات الاتحاد العمالى لإسقاط الإصلاح تمامًا، فقد قدمت تنازلات في إطارسعيها لنزع فتيل التوترات، بأنها ستأخذ في الاعتبار أصحاب المهام الصعبة مثل الشرطة والجنود ورجال الإطفاء ،فيمكنهم أن يتقاعدوا في سن مبكرة ، ولكن دون أن يكون ذلك مرتبطا بنظام خاص.»
وأكد إدوار فيليب، رئيس الحكومة الفرنسية أن المشروع الجديد يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية هي: «الشمولية» و«الإنصاف والعدالة»و«المسئولية»، حيث إن الذين لا يتجاوز دخلهم السنوي 120 ألف يورو، سيساهمون بشكل عادل في تمويل نظام التقاعد، أما الفرنسيون الذين يتقاضون أكثر من هذا المبلغ، فسترفع مساهماتهم المالية إلى 2 بالمائة.
وجديربالذكر ان اتجاه فرنسا لإصلاح أنظمة التقاعد يرجع لثقل الأعباء المالية التى تتحملها الدولة، حيث تنفق فرنسا ما يقرب من 14 % من الناتج المحلي الإجمالي على المعاشات التقاعدية ،لسد العجز فى المعاشات والذى قد يصل إلى 10 مليارات يورو فى عام2022،وهو ما يضطرها إلى فرض الضرائب على العمال الحاليين لدفع معاشات المتقاعدين. ولكن بسبب عدم وجود عدد كاف من المسهمين الحاليين لدفع تكاليف التقاعد للمتقاعدين، تجبر الدولة على تعويضهم كل عام بعدة مليارات من اليورو. ولذلك لجأ مشروع الإصلاح لرفع سن التقاعد إلى 64 لحل أزمة التمويل ،وهناك عدة صعوبات قد تواجه تطبيق الإصلاح هى وجود عدة أنظمة تقاعدية في فرنسا ،نحو42نظاما فى القطاعين العام والخاص مع اختلافات فى سن التقاعد والمزايا والقواعد التي تحكم حقوق المعاشات والاشتراكات بشكل كبير، مما يصعب عملية دمجها في نظام واحد.هذا إلى جانب الرفض الذى يواجهه من قبل الاتحادات والنقابات العمالية ،التي سوف تفقد الامتيازات التى يحققها لها النظام القديم ،الذى يمكن العمال من التقاعد قبل السن المحددة مع الحصول على معاش كبير،ولذلك فإن المشروع الجديد يشكل من وجهة نظرهم تهديدا لحقوق العمال على اعتبار أن النظام الحالى يضمن لهم تحمل الدولة الفرق بين المساهمات والمستحقات عند التقاعد المبكر.
وفى النهاية من المنتظر أن يواجه الرئيس الفرنسى ماكرون أزمات عديدة، سواء خارجية أو داخلية ،ولكن أزمة إصلاح أنظمة التقاعد تعد التحدى الأكبر ،كونها اختبارا يوضح مدى قدرته على تنفيذ مشروع الإصلاح دون موافقة من قطاع العمال أو الشركاء الاجتماعيين. كما ستظهر مدى قدرته على التوصل لحل يرضى جميع الأطراف مع عدم التراجع عن المبادئ الأساسية للمشروع ومدى قدرته على الاضطرابات التى أصابت فرنسا بالشلل والاحتجاجات مما أثر على اقتصاد الدولة. و ستكشف الأيام القادمة أى السيناريوهات سوف يتحقق على أرض الواقع ،ومدى حنكة الرئيس ماكرون فى تخطى الأزمات دون خسائر.
رابط دائم: