> «مُهداةٌ إلى: اللواء/ نبيل عبدالوهاب، بطل العمليَّة «إيلات»»
أستشعرُ خِفَّة وزنى، كما كنت دائما أستشعرُ خِفَّة ظلِّى..
كنتم دائما ما تخبرونى بذلك.. أتذْكُر ذلك يا صديقى؟ أتذْكُر فى جلساتِ سَمرِنا وما أكثرها حين كنت أُلقى عليكم النِكات؟ سنوات مرَّت ثقيلة.. يُلقى فيها العدو القنابل، وأُلقى أنا النِكات.. وهل كنَّا نملك غيرها؟!
حين كنت أُقلِّد لكم الصُول «مِعتمِد» فـى مشيته، وضحكته، وحين نتندَّر على «مينا» الذى استدعوه يوم الصباحية، قبل أنْ يُكمل أداء «واجبه المقدَّس».. كنت - وأنت قائدى - تتمرَّغ على الأرضِ مِن هيستريا الضحك.. كما كنت تتمرَّغ فى طفولتِك مِن القهر، والحزن لاستشهادِ أخيك الأكبر فى العُدوانِ الثلاثى.. أخيرا سأقابله.. سأحظى بمقابلةِ الضابط «طلعت» الذى كان سببا ودافعا لالتحاقِك بالبحريَّة، بعد أنْ استُشهد على يدِ القوَّات الإنجليزيَّة، وهو بالمدمِّرةِ «دمياط 2»..
سأخبرهُ كيف كنت دوما أخا وصديقا، والآن ستصُبح منقذى، وبطلنا..
رغم هدوئى وسكونى التام ستنقذنى.. ستنقذ نجاح عمليَّة تمنَّيناها كثيرا، وحلمنا بها لسنواتٍ.. تلك العمليَّة التى بذلنا مِن أجلِها العرق والجهد، لتصبح نورا ساطعا للأجيالِ القادمة..
أرى الآن نِتاج ما صنعناه: تلك النيران المُشتعلة هناك هى أجمل عندى مِن الألعابِ الناريَّة التى يطلقونها فى الاحتفالات.. لأوَّلِ مرَّةٍ ينطفئ جزء مِن غليانِ قلبى.. ما أجمل المنظر الآن على الشاطئ الآخر.. كم أتمنَّى أنْ تمتد النيران فتلتهم جميع قواعدهم، ووساخاتهم..
أُشفق عليكَ مِن طولِ المسافة، وبُعد الطريق.. أربعة عشر كيلو مترا لا يؤنسك فيها سوَى دموعك.. لكنك نبيل كما هو اسمك، وبطلٌ لا تَقِلّ بسالة عن أبطالِ الحواديت التى كانت تتغنَّى بها جدَّتى وأنا طفل صغير فى قريتنا..
أذكُر ذلك جيِّدا: كنت ألتفُّ حولها أنا وأختى التى ستظل تغمرها برعايتك وتنجذب هى لأميرةِ البحور، بينما أُسحَر أنا بـ»أبو زيد الهلالى»، و»السندباد»..
أعلمُ أنَّك مثل أبطالى، وسيصعب عليك أنْ تتركنى لهُم..
قد يمثِّلون بى، قد يغيِّرون الحقائق كعادتهم، ويقولون أنَّهم هم المنتصرون.. سيعتبروننى أسيرا، وستُفسد أنت عليهم أنْ يخرجوا على الدنيا بـ«مانشتات» صُحفهم الكاذبة بأنَّهم أَحبطوا ضربتنا لهم، وتعرف أيضا ماذا: إنَّه أصعب شيء... سيدفنونى عندهم، لأُكمِل الرحلة غريبا.. كما كنت فى الحياةِ مُنهكا ومطحونا..
أتصوَّرُ أمِّى المسكينة عند عِلمها بغربتى..
أراها أمام باب منزلنا الصغير بملابسها السوداء التى أقسمتْ ألَّا تنزعها إلا حين ننتقم.. أسمع أنينها المكتوم، وأشعر بقلبها المكلوم، وأكاد ألمس جلدها الناشف كشجرةِ صبَّار، وأبى.. أبى الصابر المُحتسِب.. ذلك العابد الزاهد.. تكاد مسبحته أنْ تسجِّل له مليونيّ دعوة مِن دعواتِ المظلومين.. لن يقيم لى شادر عزاء، ولن تطفئ الدموع نيرانهم..
لكنك مُنقذى.. قائدى وأخى، وصديقى.. زميل الحُلم.. ورفيق السلاح، والنجاح.. ستأخذنى معك فى تلك المياه الباردة برودة أعدائنا، وإنْ كلَّفك ذلك استعارة أنفاس فوق أنفاسك، واستدانة قوة على قوتك.. ستتخدَّل ذراعاك، وتتيبَّس عضلاتك، ولن يقف معك الماء..
صدِّقنى أحاول أنْ أكون خفيفا كما كنت فى الحياة، فلطالما عصفتْ بى الضوائق لكنِّى كنت أستحى أنْ أُثقل عليك، أو على غيرك.. بل كنت رغم ذلك أقتصد مِن راتبى لأدخل البهجة على أهلى..
أتعرف ما يثقل جسدى الآن؟ إنَّه ما تبقَّى من شعورٍ بالعجزِ.. إحساس باليأس عرفناه جميعا، وما زال يغلِّف حياتنا بالذلِّ رغم نجاحاتنا الصغيرة المتباعدة، والمتفاوتة الدرجات.. بداية مِن «رأس العش»، وحتَّى ليلتنا المُباركة تلك.. لكننا لن نرضى إلَّا بنصرٍ كبيرٍ.. نصرٌ مبينٌ، وأراه قريبا قُرب ذلك الشاطئ الصديق الذى تُبحر بنا نحوه..
أعتقدُ الآن -بينما تتردَّد فى أُذنى أغنية «بين شطِّين وميَّه» تلك الأغنية التى كانت كلمة السر، وانطلاقة شرارة البدء- بأنَّنا قد أوشكنا على الوصول.. مرَّت ساعات طويلة، وبزغ مِن فوقِنا النهار.. ولا أعرف كيف أشكرك؟
كان بإمكانك أنْ تتركنى هناك.. لم يكن ليلومك أحد، فالعملية قد نجحتْ، ودمَّرنا «إيلات»، وتخلُّفى هو حظِّى العاثر، أو لعلَّه هديَّة السماء.. لكنَّك أبيت إلَّا أنْ تكُون بطلا حقيقيّا..
كما عهدتُ مِن قبلٍ كلِّ أبطال الحواديت.
رابط دائم: