بدأت الهند طفرتها الاقتصادية الكبرى قبل نحو 20 عاما، فحققت معدلات نمو جيدة ومستديمة. وبالتزامن، تألق العلماء الهنود فى مجالات البرمجيات، والصناعات الفضائية، والمستحضرات الدوائية لدرجة دفعت الدول الغربية الكبرى إلى التنافس على اجتذابهم بشتى المغريات الممكنة. وخلال الأعوام الأخيرة، اتسمت قرارات حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودى بالحسم كثيرا، والحدة المفزعة أحيانا. وتميز مودى عن سابقيه بانحيازه الدائم إلى الفقراء، وإصراره على مكافحة الفساد فى مختلف دوائر الحكم، وحرصه على تنفيذ مشروعات تنموية بأسرع وقت ممكن، مما أدى إلى تزايد شعبيته باطراد. وبرغم هذا الأداء شبه المثالى لحكومة يمينية، شهد عام 2019 تراجعا ملحوظا فى معدلات النمو، وانحسارا للاستثمار الأجنبى المباشر. فهل وقعت الحكومة الهندية فى خطأ ما يستوجب دق ناقوس الخطر؟.
للإجابة عن هذا السؤال، اختارت مجلة «الإيكونومست» واقعة عارضة كمدخل رمزى لبحث دواعى تراجع أداء الاقتصاد الهندى فى العام الحالي. أما هذه الواقعة فتتمثل فى تحطم مركبة فضائية صغيرة فى سبتمبر الماضى كانت الهند قد أرسلتها إلى سطح القمر فى إطار برنامجها الفضائى الطموح. وبعد طول انتظار، قدم علماء هنود فى الأسبوع الماضى تفسيرا مقتضبا لدواعى التحطم غير المتوقع للمركبة: «انخفاض السرعة بوتيرة أكبر كثيرا من المعدل المحدد». واقتبست المجلة هذا التفسير بالضبط لوصف أسباب الأداء المتراجع لاقتصاد مبهر، أو هكذا اعتدنا وصفه.
مؤشرات مزعجة
سجل الناتج المحلى الإجمالى للهند نموا نسبته 4.5% فقط فى فترة 12 شهرا المنتهية فى سبتمبر الماضي. ولم يسجل الاقتصاد الهندى مثل هذا النمو المتواضع منذ عام 2013. ففى ذلك الوقت، ارتفع معدل التضخم إلى آفاق شديدة الخطورة، فى ظل زيادة كبيرة فى أسعار النفط الخام، وخلل بالغ فى عجز ميزان الحساب الجارى للبلاد. ولعل ما فاقم من آثار هذه العوامل ما يعرف بظاهرة «نوبة الغضب»، أى عزوف المستثمرين الأجانب بصورة مفاجئة عن ضخ استثماراتهم فى الاقتصاد المحلي. ولكن الصورة اختلفت تمام الاختلاف فى العام الحالي. فمعدلات التضخم بقيت عند مستويات منخفضة ومقبولة، ولم تشهد موازين المعاملات الخارجية أى اختلالات مقلقة، أما أسعار النفط فكانت مقبولة، فى الأغلب الأعم، على مدى العام. فماذا حدث فعليا ؟.
أرجع التقرير أداء الاقتصاد الهندى الضعيف إلى فقدان الثقة بين المستهلكين المحليين أنفسهم مما أدى إلى تقلص الطلب، ثم تبعهم المستثمرون الأجانب لاحقا فأحجموا عن توجيه أموالهم إلى سوق وقعوا فى غرامها ذات يوم باعتبارها قصة نجاح اقتصادى مبهرة. وبدأ انكماش الطلب فى السوق المحلية مع بداية عام 2018، ثم انهارت شركة كبيرة توفر أنشطة التأجير التمويلى والخدمات المالية للأفراد، واعتادت تقديم قروض التجزئة كمؤسسة موازية لبنوك القطاع المصرفى المعتادة. وسريعا ما اهتزت سمعة مؤسسات محلية مماثلة، فانخفضت معدلات ضخ الأموال للأغراض الاستهلاكية كشراء المنازل الجديدة، والسيارات الحديثة فتفاقم الوضع بشكل أكبر. فعلى سبيل المثال، تراجعت مبيعات السيارات بنسبة 32% فى شهر سبتمبر الماضى مقارنة بالشهر المناظر من العام الماضي. وأظهرت الأرقام الإحصائية استمرار هذا الاتجاه النزولى لمدة 11 شهرا متصلة. ثم امتد الانكماش إلى قطاع شركات الاتصالات فأحجمت عن التوسع فى السوق، بعد أن زادت أعباؤها لارتفاع ضريبة الدخل المفروضة عليها، بل وإجبارها على تقاسم أرباحها النهائية مع الدولة تنفيذا لحكم قضائى أمر بذلك !. وفضلا عن هذا كله، تفاقم عجز الموازنة نتيجة لتوسع الحكومة فى الاقتراض. ومن المتوقع أن يصل العجز إلى ما يعادل 8.2% من الناتج المحلى الإجمالى تقريبا، فى حال احتساب موازنات المؤسسات العامة والولايات. وكان البنك المركزى الهندى قد قدر العجز المتوقع بنحو 3.3% فقط.
خطة إنقاذ عاجلة
ـ وعلى غير المعتاد، تلكأت الحكومة الهندية فى مواجهة الوضع الاقتصادى المقلق آملة أن تصحح السوق أحوالها من تلقاء نفسها وهو ما تأخر لأشهر. ثم فاجأت مواطنيها والمستثمرين المحليين والأجانب بحزمة قرارات لم يخل بعضها من العشوائية فى البداية إلى أن اتضحت فلسفتها. ومن أبرز هذه القرارات القوية:
خفض ضريبة الدخل على الشركات العاملة إلى 22% بدلا من 30%، وإلى 15% كحد أقصى بالنسبة للشركات الصناعية الناشئة. والإسراع بإعادة هيكلة رؤوس أموال البنوك العامة المملوكة للدولة وزيادتها.
إلغاء ضريبة الأرباح الرأسمالية على المستثمرين الأجانب بعد أن ضجوا بالشكوى منها.
ـ تخفيف الأعباء عن شركات الاتصالات العاملة فى السوق لتشجيعها على التوسع وتطوير أعمالها.
تعديل قوانين العمل السارية بما يسمح لأرباب الأعمال بالتعاقد مع العاملين لفترات زمنية محددة وقابلة للتجديد بالتراضي، بدلا من نظام العقد المفتوح المتعارف عليه. خفض أسعار الفائدة الرئيسية خمس مرات متتالية لتحقيق الاستقرار فى السوق وتشجيع الشركات الناشئة.
ولم يتأخر رد فعل السوق طويلا، فانتعش الطلب مجددا بصورة ملحوظة، وبات بمقدور الشركات المالية حسنة السمعة ائتمانيا استئناف الاقتراض وبكلفة زهيدة تعادل المستويات السائدة فى مطلع عام 2018. وبطبيعة الحال، لا يعنى هذا أن الحكومة الهندية ضربت بعصا موسى فتغيرت الأوضاع جذريا. إذ يتطلب تحسن الأوضاع الاقتصادية مرور بعض الوقت، وقد يستلزم الأمر مرور سنوات حتى تظهر نتائج مبشرة فى بعض القطاعات. ولكن الأمر الإيجابى الذى يجب ألا ينكره أحد هو إقرار الحكومة الهندية بخطئها، ومسارعتها بتصحيح المسار. ويتناقض هذا مع مشهد المركبة الفضائية المحطمة التى ظلت نيودلهى تتحاشى الحديث عن مصيرها للرأى العام إلى أن أجبرت على الاعتراف بالمسألة فى نهاية المطاف، فيما اعتبر مصارحة بالواقع، وشجاعة فى اتخاذ القرار.
رابط دائم: