احتفى نجيب محفوظ بزقاق المدق كمكان أيما احتفاء وجعل السطور الافتتاحية الأولى فى الرواية وصفا لهذا الزقاق ليس تقديما له كمسرح للأحداث فحسب بل تعبير عن عشقه لهذا الزقاق، وأن الزقاق يعيش بداخله أكثر من أن يكون مكانا يعيش فيه كشخص. لا شك أنه جاب هذا الزقاق مئات المرات بحكم قربه من موضع نشأته،وبحكم افتتانه به وبعبق التاريخ الذى يتنفسه فيه.
...........................
المكان.. وزقاق المدق
فيبدأ الرواية بقوله: «تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوماً فى تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدرى. أى قاهرة أعني؟ الفاطمية؛ المماليك؛ السلاطين؛ علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر نفيس».
فهذه مقدمة تاريخية للمكان الضارب فى عمق التاريخ القاهرى «كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية تلك العطفة التاريخية..هذا إلى قدم بادٍ وتهدم وتخلخل وروائح قوية من طب الزمان القديم الذى صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد».
ثم يشير إلى ما يمثله هذا الزقاق قائلا:
«ومع أن هذا الزقاق يكاد يعيش فى شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على رغم ذلك يضج بحياته الخاصة، حياة تتصل فى أعماقها بجذور الحياة الشاملة، وتحتفظ إلى ذلك بقدر من أسرار العالم المنطوى».
إذن فالزقاق فى معناه الواسع هو الحياة الشاملة، أى أنه صورة مصغرة للحياة الكبرى بكل شخوصها وأحداثها.
الشخصيات
لقد برع نجيب محفوظ فى رسم شخصيات روايته من الخارج أى ملامح الوجه والملبس والهيئة كما لو كان يمسك بريشة ليرسم لنا بورتريها لكل شخصية موضحا مواصفاته الشكلية «ملامح الوجه والشعر»، والجسمانية «الطول القصر، والهزال الضخامة والجمال القبح..إلخ» فيجعل كل شخصية ماثلة أمام القارئ بلون عينيها وشعرها وقدها وقامتها، وطريقة سيرها، حتى يجعلك وأنت تقرأ تسمع صوت أنفاسها وتشم رائحتها، لتتجسد كل شخصية أمامك،كما لو كانت من لحم ودم، بالإضافة إلى الشكل وهو أمر مهم، يرسم كل شخصية من الداخل من خلال حالتها المزاجية والعصبية وميولها وآمالها وطموحاتها،وفلسفتها فى الحياة ومسلكها بين الناس، فأعطانا لكل شخصية ملامحها من الخارج ومن الداخل ظاهرها وباطنها سطحا وعمقا،فجعل لكل شخصية ملامح ثلاثية الأبعاد، لا يمكن أن تخطئها ولا يمكن أن تختلط عليك ولا تتداخل ملامحها مع ملامح شخصية أخرى.
فمن هذه الشخصيات السيد رضوان الحسينى.. نموذجا ولعل قارئ أدب نجيب محفوظ يطالع ألوانا وأشكالا من الشخصيات رجالا ونساء على مختلف مشاربهم وسماتهم على مسافة متباينة بين الجنوح والاعتدال بين العقل والجنون، بين الرضا والسخط،بين الاستقامة والانحراف، لكنه لن يصادف كثيرا شخصية فى جمال وكمال هذا الرجل ليس الجمال الشكلى ولا الكمال الجسدى، ولكن جمال الروح وجلال وصفاء النفس الذى يفيض الخير من داخله فيضيء وجهه بإشراقة الحب والإيمان والسخاء والرضا.
لقد أسهب فى سماته بما يستحق، فأما ملامحه الجسمية الخارجية، فيقدمها الكاتب بقوله: «كان السيد رضوان الحسينى ذا طلعة مهيبة، تمتد طولاً وعرضاً، وتنطوى عباءته الفضفاضة السوداء على جسم ضخم، يلوح منه وجه كبير أبيض، مُشرَب بحمرة، ذو لحية صهباء، يشع النور من غرة جبينه، وتقطر صفحته بهاءً، وسماحةً، وإيماناً يسير متمهلا خافض الرأس، وعلى شفتيه ابتسامة تشى بحبه للناس وللدنيا جميعا».
وأما ملامحه النفسية فثرية وغنية يدلل عليها بالمواقف، فهو يقدم المعونة لكل محتاج من أبناء الزقاق؛ فالشاعر المطرود من المقهى يشكو حاله للسيد رضوان الحسينى، الذى منحه أذنه عن طيب خاطر وهو يعلم بما يُكربه، وكان حاول مراراً أن يُثنى المعلم كرشه عما اعتزمه من الاستغناء عنه دون جدوى. ولما انتهى الشاعر من شكواه طيّب خاطره، ووعده بأن يبحث لغلامه عن عمل يرتزق منه، ثم غمز كفه بما جادت به نفسه وهو يهمس فى أذنه: «كلنا أبناء لآدم، فإذا ألحّت عليك الحاجة فاقصد أخاك، والرزق رزق الله والفضل فضله».
وهو مقصد الناس عند الشدة، وعندما تمر بهم مشكلة؛ ولهذا فالسيدة «أم حسين كرشة» تلجأ إليه عساه يستطيع إصلاح زوجها المعلم كرشة، وإبعاده عن طريق الغى الذى مازال سادرا فيه.
وقد أجمل نجيب محفوظ صفاته الجميلة فى عبارة جامعة موجزة بقوله «فكان رحمة حيث حل وحيث يقيم».
رابط دائم: