رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أيهما يلهم الآخر.. الأدب أم الشر؟

هبة عبد الستار

تثير مشكلة الشر فى شكله الكلاسيكى عدة تساؤلات أبرزها حول كيفية تسلل الشر إلى العالم على الرغم من أن جميع البشر خلقوا بفطرة خيرة سليمة. وقد تم تقديم إجابات كثيرة وموسعة لهذا السؤال ليس فقط فى الفلسفة والديانات ولكن أيضا فى الأدب. عن دار أزمنة الأردنية ودار الفراشة الكويتية يأتى كتاب «الأدب والشر» للفيلسوف الفرنسى جورج باتاي، بترجمة ثرية بالهوامش للكاتبة والشاعرة رانية خلاف ليقدم رؤية باتاى فى جذور العلاقة بينهما.

«الأدب ليس بريئًا. إنه مذنب وينبغى أن يعترف بذلك» يعلنها باتاى صراحة، مؤكدا أنه فقط من خلال الاعتراف بتورطه بمعرفة الشر، يمكن للأدب أن يتواصل بشكل كامل. يستكشف باتاى هذه الفكرة من خلال مجموعة من البورتريهات الأدبية، تتناول جميعها تجربة الحافة، أو عيش الحياة لحدها الأقصي، لثمانية كتاب بارزين هم: إيميلى برونتي، شارل بودلير، ويليام بليك، جوليس ميشليه، فرانز كافكا، مارسيل بروست، دو ساد، جان جينيه، مقدما قراءة فلسفية، أدبية ونفسية تكشف كيف كان للشر دور فى تشكيل تجربتهم الأدبية والحسية. بالنسبة لباتاى فإن أى كاتب جيد مذنب بشيء ما عند الكتابة ، فالأدب يتيح لنا مواجهة أسوأ ما فى الحياة .

وجورج باتاى فيلسوف ومنظرفرنسى متعدد التخصصات من أنصار السيريالية وما بعد الحداثة، يوصف بكونه سليل نيتشه وخصم سارتر، له تأثيره البارز على فلاسفة ومفكرين أمثال ميشيل فوكو، جاك لاكان، جاك دريدا. كما له سطوته على ما يسمى «أدب التعدى أوالتجاوز» وهو نوع من الأدب يركز على الشخصيات المقيدة بمعايير وتوقعات المجتمع والتى تتحرر من تلك القيود بطرق غير عادية أو غير مشروعة، وتثور ضد القوالب النمطية والأعراف الأساسية للمجتمع ، وقد يبدو أدباء «التخييل التجاوزى أو المتعدى» مرضى ومهوسين عقليا أو معادين للمجتمع وقيمه أو عدميين أو متصوفين أو حتى مروا بحالات تغيير وتغييب الوعي، لذلك تتميز القضايا التى يعالجها هذا النوع من الأدب بالجرأة غير المعهودة، كما يمارس الأبطال أقصى درجات التأمل، ويرتكبون أعمالا غير منطقية يكسرون بها الحدود بين المسموح والممنوع، الواقع والجنون، الخير والشر. وهذا النوع من الأدب تحديدا هو ما تركز عليه بورتريهات باتاى فى «الأدب والشر».

ففى مرتفعات ويزرنج للبريطانية إميلى برونتى؛ يتعرض باتاى لمسألة الشر فى علاقته بالعاطفة، وكأن الشر هو أكثر الوسائل قوة فى فضح العاطفة، لن نجد الشر مناقضا للنظام الطبيعى لوجوده ضمن قيود العقل، هناك أيضا ارتباط وثيق بين خرق القانون الأخلاقى الذى يضع حدودا ومحرمات وبين السعى للأخلاقية عبر التشدد كنقيض لهذا التجاوز. يرى باتاى أن الأدب الإنسانى الحقيقى هو المعبر عن المدى الأعلى للعاطفة، ولكن العاطفة لاتنجو دون لعنة تصيبها ومن ثم تصبح اللعنة ممرا ضروريا للنعمة الصادقة، وهكذا كانت تجربة برونتى الصوفية التى سعت للحفاظ على نقائها الأخلاقى، عبر المرور بخبرة عميقة خلال عالم جهنمى حافل بالشر.

وبتحليل ديوان «أزهار الشر» وما تضمنه من موضوعات تتعلق بالانحلال والإيروتيكية وإنكار الخير؛ يشتبك باتاى مع حجة سارتر فى تعريفه للموقف الأخلاقى للشاعر الفرنسى شارل بودلير عبر رصده العلاقة بين الشعر والشر انطلاقا من إيمانه بأن الإنسان يوضع بشكل ضرورى إزاء ذاته، وأنه لا يمكن أن يدرك نفسه ويعشق ذاته حتى النهاية إلا إذا كان مدانا، ولكى تمنح إنسانا الحرية كاملة فيجب أن تمنحه الفرصة كاملة بما فيها فرصته فى أن يخطئ . يعد كتاب «الساحرة» للفرنسى جوليس ميشليه من أهم الكتب التى تناولت السحر كطقس للمقهورين مما جعله واحدا من الذين تحدثوا بإنسانية عن الشر وطرقه عبر تفكيك وتحليل مفاهيم التضحية وطقوس الشعوذة والسحر الأسود وكيف كان ذلك نقيضا حادا للأخلاق والدين والخير فى المجتمع المسيحي. يحلل باتاى مشكلة الشر هنا من زاوية القيمة (قوة الحياة كقيمة إيجابية وحيدة) عندما تتموضع فيما وراء الخير والشر، وترتبط بأحدهما . يقارن بين دور الدين والشعر فى قراءته لقصائد ويليام بليك التى تنتهك الحدود وتمتلئ بالرموز المستقاة من صور اللاوعى التى جسدها بليك بوضوح دفع باتاى ليجلسه على «شيزلونج» كارل يونج ويقوم بتحليله وتحليل التيمة الأسطورية بكتاباته وجانبها النفسى ومنظور الشر فيها. يتلاعب بليك بقارئه ويتحداه للنظر داخل نفسه وعيش حالة من عدم الوعى ليعرف كيف يلعب تعريف المجتمع للخير والشر دورا رئيسيا فى كيفية تقييم وفهم المرء للذاتية الفردية، وبالتالى يصبح مستنيرا أو متحررا فيما يتعلق بالذات الفردية والمجتمع.

يبرز أيقونة الشر الماركيز دو ساد بأدبه الممتلئ بالوحشية والعنف، وطقوس العربدة والرذائل، وشعريته وانعزاله فى سجنه فقد أحب الشر وأدان الخير والفضيلة. فهل كان محملا بإرادة تدمير الذات؟ أم واعيا لمصيره ؟. وبجوار دو ساد يأتى جان جينيه حيث يستعرض باتاى رؤية نقدية لكتاب سارتر القديس جينيه، ويمر خلاله على حياة جينيه التى كشف فى بداياته المبكرة عن قراره بمنح نفسه للشر. ويحلل باتاى كتابات فرانز كافكا وتأثير علاقته غير السوية بوالديه على جعل كتابات كافكا بمنزلة طلقات غضب وتمرد وحزن لم يكن قادرا على إطلاقها أمام والده.

يناقش باتاى قضية الحرية والسيادة بالأدب عبر إشكالية الحرية فى مواجهة الشر، بما تتضمنه من الصدام مع السلطة أو المبادئ الأخلاقية مما يثير تساؤلات عدة مثل :هل يجب على الإنسان التخلى عن ذاته ليتحرر؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا يرى الإنسان اطلاق العنان لجانبه المظلم تحررا بينما اطلاق العنان لجانبه الخير اذعانا واستسلاما؟ وكيف يمكنه التحرر دون الاصطدام بالآخرين والمجتمع الذى يعيش فيه؟ وإلى أى مدى يكون الصدام مع المبادئ الأخلاقية تحررا؟ وهل هو تحرر حقيقى أم زائف؟. يؤمن باتاى بوجود صلة وثيقة بين الشر والاتصال والأدب بمعناه الأساسي. والشر هنا كما يعنيه بهذه الطريقة له «قيمة سيادية» بالنسبة للإنسان.

وينتقد رؤية جان بول سارتر للأدب باعتباره وظيفة أخلاقية. بالنسبة إلى باتاى ، فإن الاتصال بين المؤلف المبدع والقارئ موجود فى وظيفة الأدب، والترجمة الصحيحة أو التواصل ، الذى يقر سارتر بأنها جوهر العملية الإبداعية، وتتطلب وجود الأخلاق معنويا، ولكن باتاى يعتبرها «أخلاقا مفرطة» لا يمكن تحقيقها إلا عندما يفهم الكاتب والمبدع جميع مستويات الشر، ومن أجل ذلك يجب أن ينحدر المبدع نحو أعماق متعددة من الشر على أمل فك رموز جميع إمكانيات الوجود الإنسانى والنفس البشرية. هو يؤمن أن الأدب إذا تنازل عن الشر لن يكون إلا أدبا باردا وبائسا وسطحيا.

ويبقى السؤال الأكبر الذى يتشكل مع نهاية تلك البورتريهات، أيهما يلهم الآخر حقا ..الأدب أم الشر؟ فالأدب مدان بلا شك وفقا لحجة باتاى بل إنه يمعن فى ممارسة الشر وربما التحريض عليه أحيانا كثيرة، ولكن أليس الأدب انعكاسا لتجربة إنسانية تخوضها نفس الكاتب بما فيها من جوانب الشر والخير؟ هما إذن متصلان لا يمكن فصلهما، بينما لا يكون الشر هنا مجرد عمى أخلاقى بقدر ما هو رغبة محمومة متعمدة للتجاوز والتمرد على كل شيء فى سبيل المتعة أوالمنفعة الذاتية. هو إذن فعل عصى على الفهم فى النهاية، خاصة عندما يكون الشر فقط من أجل الشر ذاته.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق