قال مصطفى المسلمانى ونحن نخرج من السوق العجيب الذى يعرفه جيدا: «نغسل أيدينا»، وأبديت استغرابى مما يقول، فنحن درنا فى السوق طويلا نعم، لكننا لم نلمس أيا من الحيوانات المُصفَّدة والمحبوسة التى كانت تُعرض للبيع.
كشأنه دائما، هذا الصديق المدهش، يأخذ قرارات مفاجئة بهدوء عجيب، الهدوء نفسه الذى يلف مغامراته كلها وهو يجوب الآفاق بتمهل، يتكلم بتمهل، ويأكل بتمهل، كأنه يستطعم اللقمة، والخطوة، والنَفَس. يفاجئك دائما بمعرفة أماكن لا تخطر على البال، كالسوق الذى غادرناه للتو. طلب أن نغسل أيدينا، واتجه إلى زاوية عند سور السوق من الخارج، وكانت هناك مغسلة مكشوفة بها عدة صنابير وقف أمامها بعض الأشخاص يغتسلون، وانضم إليهم مصطفى.
لعله لمس أحد الحيوانات ونحن نطوف بالسوق دون أن أنتبه إلى ذلك، لكن المؤكد أننى لم أفعل ذلك ولو سهوا، فإضافة إلى بعض النفور لديّ، كنت أُبقى على مسافة واسعة بينى وبين الحيوانات المعروضة للبيع، فهى حيوانات برية من الغابات التى يقع السوق عند مدخلها، ومن الجبال التى كانت مرئية من داخل السوق وخارجه.. دببة صغيرة، وذئاب بيضاء، وسناجب، وأفاع، وأرانب جبلية، وطيور من غابات سيبيريا البعيدة.
لم ألمس أيا من هذه الحيوانات البرية التى أوقع بها الصيادون الأوكرانيون والروس الذين يتسمون بشراهة باردة فى الصيد. لكننى اشتهيت فى ضوء الشمس الصيفية الذى يجعل صور الحيوانات خلابة، أن أقتنى واحدا من الذئاب البيضاء الموشاة بالرمادى فقد كان فراؤها يتألق فى ذلك الضوء، كما أننى اشتهيت اقتناء مجموعة من السناجب التى أعشق جمال تشكيلها وحركتها الدائبة، وربما أكون اشتهيت اقتناء بعض طيور اللقلق الصغيرة. مجرد اشتهاءات عبرت خاطرى وأنا أدور فى السوق، ومضت.
كان مصطفى قد شمر عن ساعديه وفتح صنبور الماء وفيرا، ورحت أحدثه عن ملاحظتى حول أصحاب المعروضات فى السوق، فهم بشكل ما، غامض، كانوا يشبهون الحيوانات التى يعرضونها للبيع.. بائع الدببة أصم وباطنى وقلق برغم رسوخ جسده الثقيل على الأرض ويضع يديه فى جيبيه برغم حر الصيف. وبائع السناجب دائم التلفت زائغ النظرات ويُنقِّل الارتكاز من قدم إلى قدم وهو واقف. وباعة الثعابين خبيثو المَلاسة والسكون وكأنهم أفاع كامنة تكتم فحيحها. أما باعة الطيور فكانوا حزانى ومستسلمين بألم كتيم وكأنهم فى أقفاص غير مرئية تعيق انطلاقهم.
ابتسم مصطفى لما قلته، بل ضحك ضحكته هذه التى تشبه ضحكة عجوز عابث، تبدأ بآهة وتنتهى بقهقهة «أه هاه هاه هاه»، وتحت ضوء الشمس وفى صفاء الماء رأيت يديه بيضاوين جدا، فتذكرك جذوره وجده البريطانى «توماس هنرى بارتلت» الذى سحرته مصر فاستقر بها، وضرب بجذوره فى أرضها وبين ناسها، فأسموه «المسلمانى». ويبدو أن البياض الخاطف لبصرى فى يدىِّ مصطفى المغتسلتين، جعلنى أشك فى يدىّ!
رفعت يدىّ أتشممهما، وبينما كان مصطفى يرفع يديه ليجففهما فى الشمس، عاد يكرر «نغسل أيدينا أحسن»، ولدهشتى كنت أشم فى يدىّ رائحة حيوانات واضحة، حيوانات برية لم تعرف اغتسالنا البشرى أبدا، وعلى الأرجح كانت رائحة فراء لذئب أبيض، وشَعر سناجب، وريش لقالق سيبيرية. وكان لابد أن أغسل يدىّ.
رابط دائم: