بعد أيام من فرض حظر التجوال شعر أفراد هذه الأسرة المرحة بالكآبة. كأنهم فى زنزانة متسعة إلى حد ما، لكنها زنزانة؟ وفى هذه الزنزانة بعد أيام معدودة اكتشفوا أن أجسامهم تثقل والوقت يتثاقل وكل وسائل التسلية والتسرية لا تخفف عنهم. ثم إن أصوات إطلاق النار والتفجيرات تتناهى إلى أسماعهم فتتداعى إلى أذهانهم شتى الصور الدموية وعمليات القنص والاغتيال. صرَّحوا لبعضهم البعض بأشكال مختلفة عن خوف كل منهم من الانتقال لا شعوريا من حالة الكآبة إلى الاكتئاب. ومن بين اقتراحاتهم المختلفة للوقاية من السقوط فى فخ السمنة وبئر الاكتئاب، فاز اقتراح والدهم الذى كان رياضيا فى شبابه بالمداومة على التمارين السويدية فى كل ركن، وكل وقتٍ مُتاح.
بدأ كل منهم ينفذ ذلك بطريقته، وسرعان ما سادت طريقة البنت والولدين المتمثلة فى تمارين «إيروبك» إيقاعية لا تتطلب مساحات فسيحة. فى البداية كانوا يؤدونها على إيقاعٍ راقص لموسيقى عالية يذيعها أحدهم وينضوى تحت إيقاعها الجميع، حتى الأب والأم وإن بمرونة أقل، ثم صارت التمارين غير مرتبطة بتجمعهم، ولا بإعلاء صوت أى موسيقى.
راح كل منهم يدمج هذه التمارين بموسيقى داخلية ترتبط بكل لحظة مواتية يمكنهم تأديتها خلالها. تمارين راقصة فى الصباح أثناء غسل الوجه والأسنان، أثناء متابعة الأوراق التى تخرج من الطابعة، أثناء الدقائق القليلة التى يغلى فيها الماء لعمل الشاى والقهوة، حين إعداد السفرة للغداء، وعندما يعنُّ لأحدهم مشاهدة سريعة للتلفزيون واقفاً. بل كان منهم من يؤدى تمارينه وهو جالس، وحتى فى السرير قُبيل النوم، وبعده.
بدا البيت كله كأنه يرقص، يرقص كل الوقت، فوق أصوات التفجيرات الإرهابية، وطلقات القنص، والأخبار المقبضة، وساعات حظر التجوال الممتدة. ومن المُرجَّح أن هذا التحول فى هذه الشقة الكائنة فى الطابق الرابع، صار مرصودا بطريقة ما من أحد الأبنية المقابلة، برغم أن أقرب بناية مقابلة لاتسمح برؤية ما يحدث من وراء زجاج الواجهة والنوافذ بالعين المجردة.
ومن المؤكد أن عينا مجردة لم تكن هى التى صوبت سلاحا غير عادى، ليصيب زاوية محددة من الواجهة الزجاجية ويخترقها لتستقر طلقته الحية وسط شاشة التلفزيون، التى كانت الأم تشاهدها مؤدية تمارينها وهى جالسة تلعب بذراعيها «مد. ثنى. مد. ثنى» وتميل بكتفيها «شمال، يمين. شمال، يمين»؟!
كانت الأم تتابع برنامجا للطهى عندما أصابت الطلقة بطن «الشيف»، مُبعثِرة فى طريقها أوعية الصوص وزجاجات التوابل، مُطيحةً بطاسة القلى ومطفئة النور فى المطبخ الذى تلاشى فى ظلمة مُباغِتة. لم يتبق من الشاشة غير هشيم زجاج متناثر، وعتمة يتصاعد منها خيط دخان أبيض لبلاستيك يحترق. هذا فعل قناص ببندقية مزودة بتليسكوب يتمركز فى نافذة عالية، أو فوق سطح برج من الأبراج السكنية المقابلة، اتفقوا على ذلك عندما أفاقوا من الصدمة، وراحوا مذهولين يتأملون ماحدث.
قَنَّاصٌ غريب، بطلقةٍ واحدةٍ مُعتِمة أطفأ كل الموسيقى التى كانت تصدح فى الدواخل، وأخمد كل الحركة الموَقَّعة التى كان يترنم بها هذا البيت، الذى جمَّدت الطلقة سكانه على مشهدٍ صارخ المفارقة، فبينما كانت عيونهم المتسعة وملامحهم المتشنجة تنم عن الرعب، بدت أذرعهم المفتوحة على اتساعها أو المُعلَّاة فى تناوب، وأقدامهم المرتفع بعضها عن الأرض، وخصورهم المائلة، بدت جميعا.. تُشِّع بنشوة الرقص!
رابط دائم: