قلبى منقبض. استيقظتُ على النداء الغامض ذاته. منذ أن قررتُ الإقامة فى غرفة مستقلة، تكرَّر استيقاظى فجأة على صوت واضح لشخص أعرفه. يبدو من صوته أنى أعرفه. يأتى الصوت من ناحية الباب، فأفزع، وأنظر صوبَه، فلا أجد أحدا سواى. تكرَّر ذلك ولكنى لم أتمكن أبدا من تحديد صاحب الصوت الذى يوقظنى من النوم مفزوعا، رغم اعتقادى بأنى حتما أعرفه. مرة يكون الصوت لرجل، ومرة يكون لامرأة، وثالثة لطفل أو طفلة، وأحيانا يكون لأكثر من شخص.
تكرر ذلك، ففكرتُ أنها ربما رسائل تنبهنى إلى ضرورة مراجعة المصحة.
أو ربما تكون إشارات إلى قرب رحيل خالتى، ولا علاقة لها باكتئابى المزمن.
انقضى نحو عأمين على آخر زيارة لعيادة مصحة الكوثر. كنت فى انهيار مشابه لمرات ثلاث سابقة تقرر فى كل منها أن أنضم إلى أهل الكوثر لبضعة أيام. لا أذكر الآن ملابسات ذلك الانهيار الأخير، لكنه استلزم أن يصحبنى زميلان من مصر الجديدة إلى المصحة فى المعادى بعد الاتصال بالدكتور عادل رأفت، الذى أخبرهما بأنه سينتظرنى.
كانت الساعة تقترب من الثالثة عصرا، وما أن وصلنا بسيارتى التى قادها أحد زملاء العمل، حتى لمحتُ دعاء تنتظر أمام البوابة الخارجية. رأتنى أنزل مترنحا من السيارة فأقبلت نحوى وفى يدها حقيبة خمَّنت فورا أنها تضم ملابس ومستلزمات أخرى سأحتاجها حتما بمجرد أن يقرر الدكتور عادل رأفت دخولى المصحة للعلاج.
كان فى بإلى أنه سيقرر دخولى المصحة مجددا، لكنه مكث ساعتين معى فى العيادة الخارجية. سمح لدعاء بحضور نحو عشر دقائق من المقابلة ثم استأذنها فى أن تنتظر فى استراحة الزوار. كنت أبكى وكان هو يشد من أزرى وأخيرا قال لي: عد إلى البيت يا حسين. كنا قد أصبحنا صديقين. وبات يراودنى شك فى أنه لهذا السبب، ربما لم يعد الطبيب الأمثل لى، استنادا إلى ما يتردد عن أنه لا ينبغى أن تقوم صداقة حميمة بين المريض النفسى وطبيبه، تلغى المسافة اللازمة للتشخيص الدقيق وتتجنب اتخاذ أى قرار تشوبه العاطفة.
لكنى، يا طاهر، مازلت لا أتصور أن ألجأ إلى طبيب آخر.
كتب لى روشتة بعدما أقنعنى بأنه ليس مناسبا لى دخول المصحة للمرة الرابعة، خصوصا وأن الأمر لا يستلزم ذلك حتما، حتى ولو كان فى فداحة ما حدث فى المرات السابقة.
قال: ليس مستحبا أن يتكرر دخولك المصحة.
قال أيضا: قاوِم واتخذ ما يحلو لك من قرارات فى مواجهة كل ما أو مّن يؤذيك.
اهترأت الروشتة، لكننى مازلت محتفظا بها وألتزم بمضمونها: قرصان صباحا من «لوسترال 50»، ثلاثة أقراص على مدار اليوم من «ستابلون»، وقرص واحد من «سيروكويل 25» فى المساء.
مع تلك الروشتة أتناول حبَّة واحدة من «كونكور فايف» للضغط صباحا، ومعها حبة واحدة من عقار «سيدوفاج» للوقاية من السكر، وكبسولة مكمل غذائى.
قبل ذلك كله أدخن سيجارة، بعد تناول ملعقة من العسل، حتى لا أؤذى معدتى الخالية! كان أهل الكوثر، أو لنقل معظمهم، يفعلون ذلك بمجرد أن يصل إلى الواحد منهم كوب شاى بحليب يسبق تناول الإفطار والأدوية فى الفناء فى تمام الثامنة صباحا.
فى البيت بات استيقاظى قبل العاشرة والنصف صباحا نادرا. أقصد بالاستيقاظ مغادرة السرير. أما النوم فيستعصى على الحضور قبل الواحدة والنصف صباحا. نومٌ بلا طعم، سواء فى أوقات عمقه، أو أوقات تقطعه.
إنه حتى بات بعيد المنال بدون «السيروكويل»؛ هنا فى هذا البيت، بما أن مزاجى يتعكَّر بمجرد أن أدخله وأجد أن دعاء لا تزال على تجهمها المصنوع.
نعم، أرتاح حين أعود إلى البيت ولا أجدها، كطفل سيرتاح من أمٍ اعتادت أن تعكنن عليه.
....
بعد نزولى من المكتب، اتجهت إلى حيث ركنت سيارتى، ولاحظت أن إحدى العجلات تحتاج إلى ضبط هوائها. مررت على محل كاوتش قريب من ميدان روكسى، وضبطت هواء العجلات الأربع، وقررت أن أتزود ببنزين كاف بعد أن أصطحب أخى ماهر المنتظر فى ميدان العباسية. هو يعمل موظفا مدنيا فى وحدة عسكرية. التحق بتلك الوظيفة بعد مرور بضعة أعوام على حصوله على دبلوم الصنايع، قسم كهرباء. هو أصلا معفى من الخدمة العسكرية لضعف نظره. منذ أن كان فى الصف الأول الإعدادى، كنا نلاحظ حكاية ضعف نظره تلك، لكنه لم يستطع مطلقا التوافق مع النظارة الطبية، وظل حتى بعد تجاوزه الخمسين من عمره يرفض ارتداءها، ربما حتى لا يقال عليه «أبو أربع عيون»، كما كان أقران طفولتنا يقولون على كل من يضع نظارة طبية فوق عينيه.
توقفتُ حيث كان ينتظرنى فى نهاية النفق، استعدادا لدخول شارع رمسيس لنبدأ السفر إلى المنصورة لنلحق جنازة خالتنا.
قال إن ابنه علاء الدين الذى التحق بكلية التجارة فى جامعة القاهرة بعد تعافيه بمعجزة من سرطان الدم، سينضم إلينا ومعه أمه داليا، الشقيقة الصغرى لدعاء، فيما ستبقى البنتان ميادة التى حصلت مؤخرا على ليسانس الحقوق، وندى الطالبة بكلية الآداب قسم اللغة العبرية، فى البيت فى صفط اللبن.
كنا أنا وماهر وأخونا الأكبر حسان قد اشترينا فى منتصف التسعينيات ثلاث قطع زراعية فى صفط اللبن وقريبة فى الوقت ذاته من بولاق الدكرور، ثم شرعت أنا وماهر فى بناء بيتين فوق قطعتينا بعد تبويرهما بمعرفة المالك وهو موظف فى وزارة الزراعة. قطعتى مساحتها 100 متر وقطعته مساحتها 75 مترا. أما حسان فقد انسحب قبل دفع باقى أقساط قطعة الأرض التى تخصه ومساحتها 75 مترا، وفضل شراء شقة فى المساكن الشعبية فى عين شمس حيث تقيم أختنا زينب مع ابنتها حبيبة وابنها رمضان. هما ابناها من زوجها الثانى محسن الصعيدى، وهو سائق ميكروباص. أما زوجها الأول أحمد متولى وهو ابن عمنا فى الوقت ذاته فقد أنجبت منه أربع بنات، تزوجن جميعا بعد أن تركهن أبوهن صغارا فى كنف أمهن التى طلقها بناء على طلبها، لأنه كان يستمرئ التبطل ويتهرب من الانفاق عليها وعلى بناته.
كلنا غادرنا المنصورة إلى القاهرة، باستثناء أمل التى تزوجت من أحد جيراننا ويعمل نقاشا، وأنجبت أحمد وأسماء. زوجها إبراهيم الصايح يستمرئ هو الآخر القعود بلا عمل، بحجج واهية، لكن أمل لم تملك شجاعة زينب، وبالتإلى استمرأت شظف العيش، حتى بعد أن تزوج ابناها. حسان، أكبرنا كان آخر من تزوج، وهو الآن أب لبنت وولدين. بات - كما سمعت- يواظب على الصلاة فى زاوية قريبة من شقته، بعد أن أرهقته أمراض غامضة.
كان علاء الدين الذى يكبر ابنى باهر بنحو عأمين، ينتظرنا أسفل الكوبرى الدائرى قبيل مدخل قليوب ومعه والدته ترتدى الأسود. أخبرنى ماهر بذلك، فقلتُ: على بركة الله.
رابط دائم: