مع بدء العد التنازلى لإجراء الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة فى نوفمبر 2020، يترقب الجميع من سينجو من المرشحين لنيل ترشيح الحزب الديمقراطى لمواجهة الرئيس دونالد ترامب فى آخر المطاف: هل من ينتمون إلى الوسط مثل جو بايدن وبيت بوتيجيج أم أصحاب الأفكار الراديكالية أو «شعبويو اليسار» المناهضين لفكرة المؤسسة وما يسمى «المال الكبير» مثل بيرنى ساندرز وإليزابيث وارن؟
وعلى الرغم من أن الجمهوريين ربطوا مصيرهم بترامب، فإن الحزب الديمقراطى لا يوجد به منافس قوى حتى الآن، وذلك قبل أقل من 100 يوم على انطلاق الانتخابات التمهيدية فى ولاية أيوا، فمرشحو الحزب يعرضون سياسات مختلفة بشكل جذري؟ ويعتبر الحزب الديمقراطى الأمريكى أفضل حالا من أحزاب يسار الوسط فى أوروبا، ويعود ذلك فى جزء منه إلى سببين الأول النظام الانتخابى الأمريكي، حيث يحسم المجمع الانتخابى وليس أصوات الناخبين فقط النتائج.
أما السبب الثاني، فيتمثل فى الدور الحاسم للمال السياسي. ولا يختلف أحد من المحللين السياسيين أنه لا يوجد يسار بالمعنى الذى ظهر فى نهاية القرن الثامن عشر خلال الثورة الفرنسية، وتطوره فى وقت لاحق خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فيسار الوسط حاليا، الذى يميل إلى اليمين مع تبنيه للسياسات النيوليبرالية، هو المصدر الأساسى لتراجع اليسار بشكل عام خلال السنوات الماضية.
وبين التحولات الأيديولوجية لحزبى «العمال» فى أستراليا وبريطانيا، ظهرت نظرية «إنه الاقتصاد يا غبي» التى كانت سببا فى الفوز المفاجىء لبيل كلينتون فى انتخابات 1992، وظل الحزب الديمقراطى يسير فى ركب سياسات النيوليبرالية حتى مع خسارة هيلارى كلينتون للانتخابات أمام ترامب بعد 24 عاما على فوز زوجها، وظل الحزب الديمقراطى على هذه الوتيرة حتى ظهور بيرنى ساندرز فى انتخابات 2016، مع زعامته لموجة حركة «احتلوا» التى غزت العالم شرقا وغربا احتجاجا على ثراء الـ 1% وسياسات «وول ستريت» التى تحكم القوة العظمى.
إن تحول أحزاب اليسار إلى الديمقراطية الاجتماعية كلفها ثمنا باهظا، وعاقبها الناخبون على تحولها إلى النيوليبرالية المتوحشة، وظل حزب «باسكو» اليونانى فى الأذهان بعد حصوله على 5% فى انتخابات 2015، بعد أن كان الفائز فى انتخابات سابقة بحوالى 44%. وتحول «باسكو» إلى «صيحة تحذير» من نشطاء أحزاب اليسار حول العالم لقادتهم، وأيقظ سقوط «باسكو» فى الوقت نفسه اليسار المتطرف. والشائع أن اليسار لا يواجه الهزيمة من اليمين المتطرف بل من أحزاب الوسط والخضر، والوضع مختلف فى السياق الأمريكي، فداخل الحزب الديمقراطي، يتحدى اليسار الراديكالى الليبراليين والمنتمين للوسط، مع تحول الحزب الجمهورى إلى يمين متطرف تحت قيادة ترامب.
ويرى المراقبون أن أحزاب يسار الوسط لا يمكن أن تفوز إلا بتغيير رسالتها الأيديولوجية بعيدا عن انتقاد النيوليبرالية إلى اتباع «ديمقراطية اجتماعية» بصياغة معاصرة، وهذا المطلب يعنى استبعاد بايدن، نائب الرئيس السابق باراك أوباما، وعدو الرئيس الحالى الذى يعتبره خصمه الأساسى فى انتخابات 2020، فهو يقدم رسالة قديمة ومجرد نوستالجيا إلى فترة إدارة أوباما، فى وقت يبدو التغيير واضحا مع ساندرز إلا أنه يواجه مشاكل أكثر تعقيدا، ومن بينها تقسيم الحزب وجزء من قاعدته الشعبية. وظهرت هذه المخاوف بين الديمقراطيين بسبب حالة الاستقطاب الشديدة داخل الحزب، حيث وجهت الليبرالية نانسى بيلوسى تحذيرا واضحا، موجها تحديدا إلى ساندرز ووارن، بأن برامجهم مثل «الرعاية الصحية للجميع» و»ضرائب الثروة» يمكن أن تضر فرص الحزب فى الفوز بالرئاسة وهزيمة ترامب، «فما يصلح فى سان فرانسيسكو لا يصلح بالضرورة فى ميشيجان».
وتتأرجح استطلاعات الرأى بين الثلاثى بايدن وساندرز ووارن. ولم يترك ترامب مجالا لأفكار ساندرز ووارن، فقد فتح النار عليهم قائلا إن «أمريكا ليست دولة اشتراكية»، محذرا من خطورة الاشتراكية والشيوعية لأنهما تدمران المجتمعات. خطاب ترامب كان موجها إلى فنزويلا إلا أن الداخل الأمريكى كانت له حسابات أخرى. فساندرز وضح مفهومه للاشتراكية قائلا! أنها تعنى بالنسبة له «توسيع برامج الرعاية الصحية، وتوفير فرص التعليم لجميع الأمريكيين، وإعادة تأسيس البنى التحتية المتهالكة» أو بمعنى آخر أن «تخدم الحكومة احتياجات كل الناس بدلا من خدمة الأثرياء المساهمين فى الحملات الانتخابية».
والأغرب أن تأثير ساندرز امتد إلى بريطانيا حيث كشف ستيف هويل مساعد جيريمى كوربين زعيم حزب العمال البريطانى أن الأخير استفاد من طريقة ساندرز وجعلها شعارا لحزبه «للكثيرين وليس للقلة».
وبشكل عام، فإن فبراير المقبل، مع انطلاق انتخابات الجولة الأولى للتصويت فى ولاية أيوا، سيحدد اتجاهات الأمريكيين.
رابط دائم: