أى مواطن فى أى مجتمع ينظر أولا إلى الخبز وفرص المعيشة الكريمة قبل أى حديث عن الحرية أو الشعارات الملتهبة .. ويعيش مواطن أمريكا اللاتينية تحديدا ظروفا اقتصادية واجتماعية شديدة الخصوصية فى ظل أنظمة سياسية ذات أيديولوجية اشتراكية لفترة من الفترات، حيث تمكنت بعض الدول من الوصول إلى مرتبة مثالية فى تصنيف البلاد الأكثر تقدما ورخاء تحت مظلة المبادئ اليسارية القديمة، أبرزها البرازيل فى عهد لولا دى سيلفا الذهبى، وفنزويلا خلال حقبة معبود الجماهير هوجو تشافيز. وفجأة، تحولت الدفة السياسية فى اتجاه السوق الحرة والفكر الرأسمالى، لتبدأ القارة الجنوبية فى تحمل النتائج . واضطرت شعوبها لدفع ثمن اختيارها لوجوه جديدة سارت عكس التيار المألوف وبدأت تحصد ما زرعته.
وتعد الأرجنتين فى مقدمة النماذج اللاتينية التى ذاقت مرارة الارتماء فى أحضان الرأسمالية الغادرة بعد أن تأثرت اقتصاديا واجتماعيا برياح التغيير السياسى الفجائية التى صعّدت باليمين إلى السلطة عندما تولى رجل الأعمال ماوريسيو ماكرى الرئاسة وأنهاها بأسوأ أزمة اقتصادية تعيشها الأرجنتين منذ عام ٢٠٠١، لتشهد انكماشا منذ أكثر من عام وتضخما كبيرا بلغ ٣٧٫٧ ٪ فى سبتمبر الماضى، وصولا إلى دين هائل ومعدل فقر بالغ الارتفاع يطال ٣٥٫٤ ٪ من السكان ..
وانطلاقا من هذه الصورة المظلمة طفا على سطح المشهد ابن الاشتراكية ألبرتو فرنانديز والذى خدم مع كل من الرئيسة السابقة كريستينا دى كيرشنر الشهيرة بـ «ملكة الدراما»، وزوجها الرئيس السابق نيستور دى كيرشنر، حيث ترأس فرنانديز حملة الرئيس دى كيرشنر الانتخابية عام ٢٠٠٣، ثم حملة زوجته كريستينا فى ٢٠٠٧، ونال المكافأة وقتذاك بتوليه منصب رئيس الوزراء .. ورغم الخلاف الذى دب بين فرنانديز وآل كيرشنر فى ٢٠٠٨ حول فرض ضرائب على الصادرات الزراعية، وانتقاد أسلوب عائلة «كيرشنر» فى إدارة البلاد إلا أن أحوال المواطن الأرجنتينى فى عصر الملياردير ماكرى دفعت فرنانديز إلى تجديد التحالف مع كيرشنر والتغاضى عن ملفات الفساد المتراكمة المتورطة فيها «كريستينا» وبلغت حد مثولها للمحاكمة ٤ مرات!.
وبمجرد أن وضع يده على الحكم، وعد فرنانديز بتغيير وجه الأرجنتين الذى يعانى من كدمات أزمة اقتصادية حادة بمعدل تضخم أكثر من ٥٥ ٪، ونسبة فقر تجاوزت الـ ٣٥ ٪ فضلا عن ديون قياسية وصلت إلى ١٠ مليارات دولار لصندوق النقد الدولى، ليستغل الصندوق المأزق ويغازل بوينس آيريس بقرض قيمته ٥٧ مليار دولار على ٥ سنوات لاختراق اقتصاده تحت ذريعة «علاج كبوته» .. وعلى نظام فرنانديز الجديد بمساعدة آل كيرشنر البدء فى مسيرة الإصلاح وتلبية نداء ملايين الفقراء فى بلاد «التانجو».
ولايزال الرئيس اليسارى السابق خوسيه «بيبى» موخيكا، محبوب الملايين فى الأوروجواى لتواضعه ونزاهة سيرته .. ولعل الانتخابات الرئاسية الأخيرة مؤشر على استيقاظ خلفاء موخيكا من غفوتهم مع حلول الجولة الثانية وتقارب الأصوات بين دانييل مارتينيز عمدة مونتفيديو السابق مرشح حزب «فرينتى أمبليو» الحاكم، وبين السيناتور السابق لويس لاكال بو من حزب بارتيدو ناسيونال (يمين الوسط). ولكن توقف عجلة النمو وتزايد معدلات الجريمة باتت تهدد عرش اليسار فى الأوروجواى. ولم يمنع تفوق اليمين فى البرازيل وصعود جايير بولسونارو أن يفكر المواطنون فى الماضى ويستعيدوا ذكريات المجد وبصمات بائع الأحذية دى سيلفا على بلادهم وحياتهم ..
فقد تبخرت وعود «ترامب البرازيل» بإنعاش الاقتصاد بعد أن سجل الاقتصاد البرازيلى أول انكماش منذ عام ٢٠١٦ خلال الربع الأول من العام الحالى.وهو الأمر الذى يستدعى سرعة احتواء الفاتورة الاجتماعية الفادحة .. وهنا يكمن الهدف من إحياء التجارب اليسارية واستدعاء فرسانها مجددا لتعويض خسائر سياسة اليمين الفاشلة. واليوم فى قارة «أثرياء العالم» حيث تحالف أباطرة المال وتجارة المخدرات والسلاح مع رءوس السلطة ورجال السياسة، تحرك الفقراء أخيرا من أجل قوت يومهم .. ولم يعد يعنيهم أو يغريهم وعود اليمين البراقة ولكنهم لايقبلون أيضا بأقل مما حققه رواد اليسار فى سنوات البناء والنهضة .. وهذه هى المسئولية الكبرى الملقاة على عاتق الجيل الجديد ليثبت جدارته بانتمائه لفصيلة «عظماء التاريخ»!.
رابط دائم: