رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مصطفى النحاس.. سيد الناس

السماح عبدالله

كان دولة الرئيس «مصطفى باشا النحاس» واحدا من شرفاء مصر، وطوال حياته كلها لم يكن يملك غير راتبه الحكومى الذى ظل يتقاضاه منذ ابتدأ حياته الوظيفة موظفا صغيرا بمكتب تلغراف سمنود العام، كتب «سعد باشا زغلول» عنه يقول:

«مصطفى النحاس» رجل ذو قلب طيب, ومبدأ ثابت, يميل إلى الثرثرة ولكنه خفيف, به خفة ورعونة, يميل إلى الخيال, سريع الانفعال ولكنه لا يتغير بتغير الأحوال, وطنى مخلص, وهو فقير مفلس، ذكى غاية الذكاء, وفى كل الوفاء, وله فى نفسى مكان خاص.

وكان يقال عنه:

«مصطفى النحاس»، سيد الناس.

....................



فى عام 1930، اضطر للاقتراض من بنك مصر، كان «إسماعيل باشا صدقى» رئيس الوزراء الذى تولى الحكم بعده، راغبا فى التنكيل به، فقرر تخفيض معاشه إلى النصف، بحجة أنه قام بضم السنتين اللتين نفى فيهما إلى سيشيل إلى ملفه الوظيفى، معتبرا ذلك مخالفة للوائح الوظيفية، ولكى يستطيع «النحاس» الالتزام بما عليه من واجبات تجاه شقيقته التى كان يمنحها كل شهر عشرة جنيهات، وتجاه أبناء أشقائه الذين كان يمنحهم خمسة عشر جنيها شهريا، وتخفيض معاشه إلى النصف سيجعله غير قادر على الوفاء بهذه الالتزامات الأسرية، فذهب لصديقه «طلعت باشا حرب» فى بنك مصر، وفى يده طلب يرجو فيه الموافقة على قرض يسدد على أقساط من راتبه.

المصريون كانوا متعلقين بالزعيم «مصطقى باشا النحاس» تعلقا غير طبيعى، حتى إن كثيرا من مواليد الثلاثينيات والأربعينيات حملوا اسمه، وقد كانت مواقفه وحكاياته بمثابة الأمثولات التى تملأ حلقات السمر فى المنادر والمصاطب فى كل قرى مصر، وبالرغم من صعوبة الاتصالات فى هذا الزمن، إلا أن أسلاك التليفونات كانت تنقل كل صغيرة وكبيرة لأعيان الأرياف والعمد، الذين سرعان ما يحكونها لأهالى القرى، فيصبحون وكأنهم كانوا حاضرين لمجالسه العامرة ودواوينه الرسمية، هو نفسه كان يتصرف وكأنه واحد من الناس بالفعل، فقد كان بسيطا جدا، والذى فى قلبه على لسانه، حتى هيأته، وملابسه، والحول البين فى عينه اليسرى، وتردده الدائم على مسجد الحسين، كل ذلك جعله شبيها بالبسطاء، وقريبا جدا من قلوبهم.

مرة، كان فى بنى سويف، فى محاولة منه لحشد الجماهير، كى يقاطعوا الانتخابات البرلمانية، بعد أن قام «إسماعيل باشا صدقى» بإلغاء الدستور، لكن عساكر «صدقى» منعوه عن الجماهير فى محطة بنى سويف، فلا هم استطاعوا الدخول للمحطة، ولا هو استطاع الخروج منها إليهم، ولما طال الوقت، أحس ببعض الإرهاق، فمدد جسمه على دكة المحطة، وأغلق عينيه، ونام، بكل بساطة، تماما، كما يفعل البسطاء الذين يحل عليهم التعب.

أما علاقته بالمصريين الأقباط، فقد كانت تطبيقا حقيقيا لشعار الوفد الأزلى، يحيا الهلال مع الصليب، ولهذا تعلقت قلوب المصريين الأقباط به، وربما كان هو الزعيم المصرى الوحيد الذى أدرك الأقباط أنه بالفعل لا يفرق فى التعامل بين المسلم والمسيحى، مرة أعلنت إدارة البلديات عن حاجتها لبعض الوظائف، وتقدم العشرات لها، لكن النتيجة لم تعلن، ولما طال الوقت، كتب أحد المتقدمين لهذه الوظائف شكوى فى إحدى الجرائد الوفدية، عن تلكؤ الحكومة فى إعلان نتيجة المسابقة، فاستدعى «النحاس» مدير البلديات، واستفسر عن السبب فى هذا التأخير، فأجابه قائلا:

المشكلة أننا فى حاجة إلى سبعة عشر موظفا، والأوائل فى هذه المسابقة يا دولة الباشا، فيهم اثنا عشر مسيحيا تغير وجه «النحاس» من الغضب، ورمى الأوراق فى وجه الموظف الكبير وهو يرد عليه:

وما المشكلة فى هذا؟، أليسوا مصريين؟.

ووقع باعتماد النتيجة.

هكذا كانت تسير حياة الرجل الذى شهد له خصومه قبل أصدقائه بالشرف والنزاهة، لكن الدنيا فجأة أدارت له ظهرها.

عندما قامت ثورة يوليو، تم تحديد إقامته فى بيته بجاردن سيتى، لم يكن البيت ملكا له، وإنما كان بالإيجار، وهو لم يكن يملك غير المعاش، ولم يكن مسموحا له بالمغادرة إلا لجهتين، مسجد الحسين، والمستشفى، وقد اعتاد أصدقاؤه أن يذهبوا كل يوم جمعة إلى الحسين لكى يقابلوا زعيمهم، لكن «سعد فخرى عبدالنور» سكرتير الوفد، كان يجد حرجا فى الذهاب إلى المسجد بسبب مسيحيته، فأفضى بهذا الأمر له، فرد عليه «النحاس باشا» مازحا:

اطمئن، فسيدنا الحسين نفسه وفدي.

وهكذا ظل الرجل حبيس أسره، فى الوقت الذى تكالبت عليه الأمراض، كان قد استغنى تماما عن جميع الخدم، وباع سيارته، واضطرت السيدة زوجته «زينب الوكيل» أن تبيع مصاغها، وبعضا من أثاث بيتها الذى سبق وأن اشترته هى وزوجها قطعة قطعة، لمواجهة تكاليف العلاج الباهظة، وكان سكان جاردن سيتى، قد اعتادوا على رؤيته وهو شيخ مسن غادر الثمانين، على كرسى خيزران، محمولا على أيدى سُيَّاس المنطقة وبوابيها، ليذهبوا به كى يتلقى العلاج، توفيرا لنفقات العلاج بالمنزل، وكانت السيدة «زينب الوكيل» تمشى وراءهم وهى تحبس دموعها.

وكان لا بد لها أن تبحث عن حل، فاتصلت بـ «جمال عبدالناصر» وطلبت منه طلبا فى غاية المشروعية:

أطلب أن تأمر بصرف مبلغ لى من إيراد أموالى، التى تحت يد الحكومة لأنفقه على علاج زوجى الذى لا يرضيك أن يهان فى أواخر أيامه، وأنت تعلم أن كل ما أملكه قد صودر، وأصبحت لا أجد ما أستطيع أن أواجه به مطالب الحياة.

وأمر لها «جمال عبدالناصر» بمبلغ ثلاثمائة جنيه!.

لكن أكثر ما كان يعز عليه، ويجعل حياته كلها جحيما، أن التاريخ الذى كتبه رجال يوليو فى المناهج الدراسية، وفى الصحف السيارة، تجنب ذكر اسمه، وتعمد عدم الإشارة إلى دوره فى الحياة السياسية المصرية، حتى وصل به الأمر إلى النسيان التام، لدرجة إن إحدى الطالبات الجامعيات اللواتى كن يدرن على البيوت لعمل بحث ميدانى كلفن به من قبل الأساتذة، ذهبت إلى بيته، وأخذت منه بيانات عن الاسم والسن والمؤهل الدراسى، وبعد أن دونت هذه البيانات فى أوراقها، سألته ببراءة:

أستاذ «مصطفى»، ماهى وظيفتك؟.

بهدوء أجابها:

ألا تعرفين يا ابنتى، ماذا يعمل «مصطفى النحاس»؟

أجابت مندهشة:

لا.

سألها:

فى أى كلية تدرسين؟

ردت بعفوية:

كلية الآداب قسم التاريخ!.

المصادفات القدرية شديدة الغرائبية، ولو ان الوفديين أنفسهم أرادوا أن يضبطوا الأمور لما استطاعوا ضبطها كما ضبطها القدر، فقد مات «مصطفى باشا النحاس» فى الثالث والعشرين من أغسطس من عام 1965، وهو اليوم نفسه الذى مات فيه زعيم الوفد الأول «سعد باشا زغلول»، الثالث والعشرون من أغسطس سنة 1927، وكأنه مقدر لهما أن يرحلا فى تاريخ واحد، كما ناضلا معا وعاشا معا، وقد كان من الطبيعى أن تكون جنازة «النحاس» باشا واحدة من أكبر المشاهد الوداعية فى تاريخ مصر كلها، حتى إنها سميت بالجنازة الأسطورة.

الخبر أذاعته إذاعة البى بى سى براديو لندن مساء يوم الوفاة، وتناقل الوفديون الخبر بالتليفون، وسرعان ما انتقل للمصريين كلهم، وفى صباح اليوم التالى احتشدت الناس حول مسجد عمر مكرم، ولأنهم يعرفون العلاقة الوثيقة التى تربط الزعيم بسيدنا الحسين، فقد تأكدوا أنه سيخرج من مشهده العامر، فازدحمت الشوارع المؤدية من ميدان التحرير إلى الحسين بالآلاف المؤلفة من المصريين، ورجال الشرطة تدخلت، كانوا يريدون أن يخطفوا الجثمان ويسارعوا بدفنه بدون هذه الجنازة المهيبة، متحججين بالحجة الجاهزة، الحفاظ على الأمن العام، لكنهم فى الحقيقة كانوا يخشون مغبة الأمر، ونشبت معركة بين الجانبين، وبطبيعة الحال انتصر الشعب، واحتفظ بجثمان زعيمه، حتى إن أحد الرجال لف حول الجثمان وهو يرقص فرحا بعد أن استطاع الشعب الاحتفاظ بزعيمه من أيدى الخاطفين، وكان المشيعون يرددون بهتاف عال:

اشكُ الظلم لسعد يا نحاس

اشكُ الظلم لسعد يا نحاس.

وعندما قبض على بعض من مشوا فى هذه الجنازة، قالوا للمقبوض عليهم:

سنعتقلكم إلى الأبد.

رد واحد عليهم قائلا:

ولكنكم لا تملكون الأبد.

وعن مشهد الجنازة، يقول الأستاذ «خالد محمد خالد» لقد رأيت «مصطفى باشا النحاس» خطيبًا، ولكنى لم أره أخطب منه فى مثل هذا اليوم العظيم.

الماشى فى شوارع القاهرة، يمكن له بكل بساطة أن يشاهد تماثيل زعماء بلده فى الميادين العامة، سيرى «إبراهيم باشا» على جواده المتأهب للانطلاق فى فتوحاته إلى حيث تنتهى البلاد التى يتكلم أهلها العربية، وسيرى «مصطفى باشا كامل» مشيرا بإصبعه إلى أرض بلاده معلنا بأنه لو لم يكن مصريا لتمنى أن يكون مصريا، وسيرى «سعد باشا زغلول» على قاعدة تحملها أعمدة فرعونية مرسوم عليها زهرة اللوتس، وهو يرد بيده على تحية الجماهير السعدية، بل إنه يمكن أن يرى زعماء من بلدان غريبة، مثل «سيمون بوليفار» بزيه الفنزويلى، وهو يناضل فى فترة ما قبل الجمهورية القبطانية، ساعيا لتحرير كثير من دول أمريكا اللاتينية التى وقعت تحت طائلة الحكم الإسبانى، لكنه، أبدا، لن يرى تمثالا لواحد من أكثر الزعماء محبة فى قلوب المصريين، رجل يكاد التاريخ لا يذكر اسمه كثيرا، رغم تغير الظروف، واختلاف المناخ، اسمه «مصطفى النحاس»، وكنيته سيد الناس.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق