وسط عالم مضطرب يئن من الإرهاب، والانقسامات التى يفاقمها تصاعد الخطابات اليمينية والشعبوية؛ تشتد الحاجة للرجال العظماء للاستزادة من خبراتهم وسيرتهم. فى ظل تلك الظروف وباقتراب ذكرى مولده؛ يحضر رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم بقوة، ليس فقط كنبى للرحمة حمل رسالة محبة وسلام للإنسانية جمعاء بل كقائد ومُشرع ، ورجل دولة ملهم واجه الصعوبات كافة ونجح فى التغلب عليها فكان الرجل الوحيد فى التاريخ الذى حقق نجاحا لانظير له على المستويين الدينى والاجتماعي. منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 تصاعد العداء للإسلام وللرسول الكريم فى الغرب خاصة مع كل حادثة إرهابية يشهدها العالم. ودفع ذلك العديد من الباحثين والأكاديميين لدراسة الإسلام وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام من أجل محاولة للفهم، بعضهم اتسم بالإنصاف والبعض الآخر أعمته التحيزات الشخصية والثقافية. فى هذا الملف نعرض لمحاولات غربية جادة تقترب من الانصاف، من أجل التعرف على نبى الرحمة وإرثه من خلال صوره فى المخيلة الغربية، وتبرئة الإسلام ونبيه من العنف، والقضايا الجدلية بشأن الأحاديث النبوية وتحديات تحريفها، وهى قضايا ساخنة فى النقاشات الأكاديمية والعامة عن الإسلام بالغرب.
يرصد كتاب «محمد الأوروبي» تنوع تمثيلات النبى محمد عليه الصلاة والسلام فى المخيلة الغربية، بين الانتقاد والمديح، وكيف استغله الأوروبيون بصراعاتهم ومصالحهم عند انتقادهم للسلطة. هى سيرة تكشف عن أوروبا أكثر مما تكشف عن النبى محمد عليه الصلاة والسلام ، وتبرز جذور تناقضات الرؤى الغربية للإسلام ونبيه التى غالبا ما تشكلها المصالح والانحيازات. ويدحض كتاب «محمد نبى السلام» الاتهامات التى يسوقها الغرب حول انتشارالإسلام بالسيف من خلال تقديم قراءة جديدة لحياة النبى تؤكد قيامه ببناء مجتمع قائم على التعددية والتسامح، وأن الحروب التى خاضها كانت عادلة ودفاعية، وإن كان يحسب على الكتاب خطأه بتعميم الأحكام فى نظرته للمسلمين المعاصرين واعتبار معظمهم «انحرف» عن تسامح الإسلام ونبيه الكريم، وهو بذلك يتجاهل جهود أجيال من المجددين الذين اجتهدوا بقراءات معتدلة تتصدى للتفسيرات الخاطئة للتيارات المتشددة . ولأن الكثير من الخلافات حول الإسلام تأتى من سوء تفسير الكلمات ونقلها؛ يركز كتاب «تحريف حديث محمد» على قضايا جدلية متعلقة بتحديات سوء النقل عن الأحاديث النبوية. هو موجه بالأساس للقارىء الغربي، ويتضح ذلك من اختيار عناوين فصوله وتناوله لقضايا جدلية تحتل الصدارة دائما فى محاولات الهجوم على الإسلام بالغرب، إلا أنه يدافع بشدة عن جهود علماء السُنة، ويوضح كيف تعاملوا مع ما قبل الحداثة، ومع ما نتج عن اتصال الإسلام بالغرب الحديث، والتحديات والأزمات التى فرضها هذا الاتصال على تقاليدهم الدينية.

-
الرسول فى المخيلة الأوروبية.. مصلح وثورى جمهورى فى عصر النهضة
لطالما فتن النبى محمد صلى الله عليه وسلم أوروبا منذ العصور الوسطي. وانعكس ذلك على انتشار صور متخيلة له فى الرسوم الكاريكاتورية واللوحات الجدارية والمخطوطات، هناك من صوره كإصلاحى عقلانى مستنير، ورجل دولة، ومشرع عظيم ،وقائد ملهم و نبى مجيد. وسواء تم اعتباره خصما أم حليفا، كان الأوروبيون يستخدمون ويستغلون صوره المختلفة فى جدالاتهم ومعاركهم الداخلية على مدى العصور، ومن ثم أصبح الجدال بشأن النبى محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام جزءا لا يتجزأ من فهم تاريخ أوروبا.
فى كتابه «محمد الأوروبي: تاريخ التصورات الغربية للنبي» يتتبع المؤرخ جون تولان، أستاذ التاريخ بجامعة نانت الفرنسية، تطور شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فى الثقافة الأوروبية، وكيف أصبح شخصية رئيسية فى فهم كيف تم بناء أوروبا. هو يبحث فى جذور العداء والخوف وحتى الإعجاب الذى كان لدى الأوروبيين لمحمد صلى الله عليه وسلم وكيف تم التعبير عن هذه المواقف من القرن الثانى عشر وحتى القرن الحادى والعشرين. يقدم تولان صورا متنوعة للنبى تلونها العواطف والصراعات على مر القرون.هى أيضا متناقضة ومعقدة ومتغيرة بتغيرالأسباب . بدءاً من الدعوات المبكرة للانضمام إلى الحروب الصليبية ضد «المسلمين» وحتى استغلال الإصلاحيين الأوروبيين انتشار الإسلام لمهاجمة فساد الكنيسة القائمة.يُظهر الكتاب أن التصورات الغربية عن محمد صلى الله عليه وسلم تكشف عن انحيازات ومصالح أصحابها أكثر من الحقائق التاريخية عن نبى الإسلام.
لم تكن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة التى نشرتها مجلة «شارلى ابدو» - للنبى محمد صلى الله عليه وسلم عام 2011 هى الأولى من نوعها ولم تكن الأخيرة أيضا فى مجتمع علمانى يرى الإسلام «عاديًا مثل الكاثوليكية» يجوز انتقاده بشتى الطرق. كانت أول رسوم كاريكاتورية أوروبية لمحمد صلى الله عليه وسلم قد برزت فى القرن الثانى عشر. يوضح تولان أن إدانة الإسلام خفت مع اعتراف المسيحيين اللاتينيين بأنه ليس إيمانا غريبا لأنه يكرم الأنبياء الكتابيين، ويطالب بالشريعة الإلهية ويدعو للتوحيد.ومع ذلك ، فقد استغرق الأمر بعض الوقت .يبرز تولان كيف يكشف كل ذلك الكثير عن المسيحية فى العصور الوسطى أكثر مما يفعل عن محمد صلى الله عليه وسلم. يضيف تولان: «إن التصورات الغربية للنبى من العصور الوسطى حتى اليوم تخدم كمؤشر ، ليس لتطور الإسلام ، ولكن لتطور الغرب. يتضح ذلك من كيفية تكون الخوف المختلط بالكراهية للحضارة الممتدة من إسبانيا إلى البلقان». يوضح تولان ندرة ما كتبه علماء العصور الوسطى وأوائل أوروبا الحديثة عن التاريخ الإسلامي، كما يقول :«كثير من هؤلاء المؤلفين كانوا أقل اهتمامًا بالإسلام والنبى صلى الله عليه وسلم من القراءة فى دروس قصة محمد صلى الله عليه وسلم التى يمكنهم تطبيقها على أزماتهم.
رأى البعض الإسلام كشكل من أشكال التوحيد المقرب من الفلسفة الإلهية. فى عام 1734 ، نشر جورج سيل ترجمة إنجليزية لمعانى القرآن الكريم. فى مقدمتها ، تتبع التاريخ المبكر للإسلام ، وصور النبى صلى الله عليه وسلم كمصلح. تم نشر وإعادة ترجمة المعانى للقرآن على نطاق واسع، وتم تقديرها فى إنجلترا حيث أصبح محمد صلى الله عليه وسلم رمزًا للجمهورية المناهضة للفساد. كان لها تأثير خارج إنجلترا أيضًا. اشترى مؤسس للولايات المتحدة توماس جيفرسون نسخة منها عام 1765 ، مما ساعده على تصور فلسفة إلهية تجاوزت الحدود المذهبية. (تم استخدام نسخة جيفرسون ، الموجودة الآن فى مكتبة الكونجرس ، فى أداء اليمين الدستورية لممثلى الشعب المسلمين فى الكونجرس) . وفى ألمانيا ، قرأ يوهان جوته ترجمة «سيل» ، مما ساعد على تشكيل رؤيته لمحمد صلى الله عليه وسلم باعتباره ملهما ونبيا نموذجيا. فى فرنسا، استشهد فولتير بترجمة سيل بإعجاب، وصور محمد صلى الله عليه وسلم على أنه مصلح ملهم ألغى الممارسات الخرافية. وكان نابليون بونابرت هو الذى شغف بشدة بالنبى لدرجة أن وصف نفسه بـ «محمد جديد» بعد قراءة الترجمة الفرنسية للقرآن التى أنتجها كلود إتيان سافارى عام 1783. مستوحى من صورته عن النبى كقائد عام ومشرع بارع ، كان نابليون يأمل فى أن يقبله علماء الدين فى القاهرة ويأتى جنوده الفرنسيون كأصدقاء للإسلام لتحرير المصريين من الطغيان العثماني.
ولكن التأثير الأبرز كان فى إنجلترا فى القرن السابع عشر حيث كان الحديث عن الإسلام ، وخاصة عن محمد صلى الله عليه وسلم، كوسيلة لانتقاد السلطة - الملك أو الكنيسة أو الكومنولث- وكرمز للإصلاح الديني، عندما لم يكن هناك مجال للنقد المباشر. بعد مرور قرن، كان هناك الكثير من المتحمسين للتنوير الذين التقت مبادئهم مع تفكير «نبى التنوير» كمصلح نموذجى يقدم بديلاً لفساد الكنيسة المسيحية، رفض نظام الكهنوت بكامله، من خلال دين جديد انحاز للعقل ضد الخرافات والجهل، وتجرد من الوثنية، وساوى بين الجميع، وألغى امتيازات رجال الدين، وأقام علاقة مباشرة بين الله ومؤمنيه، فكان يُنظر لمحمد صلى الله عليه وسلم فى عصر النهضة بانجلترا على أنه ثورى جمهوري. هذا الكمال الأخلاقى والفكرى أسهم بتشكيل اللاهوت الإلهى الفلسفى فى العقيدة الشعبية بأوروبا، بحسب تولان.بينما جاء توسع العثمانيين فى أوروبا الوسطى بردود فعل أوروبية منتقدة للإسلام خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. النزاعات بين الطوائف المسيحية أثرت أيضًا على الطرق التى ينظر بها المسيحيون الأوروبيون إلى المسلمين.
فى السياق نفسه استمر النبى محمد صلى الله عليه وسلم كواحد من أهم المشرعين فى العالم. دعا العديد من المسيحيين الأوروبيين كنائسهم إلى الاعتراف بدور محمد صلى الله عليه وسلم كنبى للمسلمين، وكان هذا الاعتراف أفضل وسيلة لتعزيز الحوار السلمى والبناء بين المسيحيين والمسلمين.يستمر هذا النوع من الحوار اليوم ، لكنه غرق إلى حد كبير بسبب الصراع ، حيث قام السياسيون اليمينيون المتطرفون فى أوروبا وغيرها باغتيال صورة وشخصية النبى محمد لتبرير السياسات المعادية للمسلمين. ومن المفارقات المؤسفة أن الصورة السلبية للنبى الكريم يتم ترويجها من قبل مسلمين أصوليين الذين يزعمون كذبا الالتزام بسنته ويرفضون كل السياق التاريخى لحياته وتعاليمه ؛ وفى الوقت نفسه، يدعى هؤلاء المتطرفون أنهم يدافعون عن الإسلام ورسوله بالقتل والإرهاب.


-
نبى السلام وسط صراع الإمبراطوريات
فى عام 603 هـ غزت جيوش فارس واحتلت أراضى تابعة للإمبراطورية الرومانية البيزنطية، وانتشرت تقارير عن الدمار فى المدن الواقعة على طرق تجارية حيوية. كان العالم البيزنطى قد تعرض للفوضى فى العام الذى سبقه، عندما شن الجيش الرومانى انقلابًا ضد الإمبراطور موريكيوس وقتله هو وعائلته. أغضب اغتيال الامبراطور الفارسى خسرو الثانى الذى اعتبر الامبراطور موريكيوس حليفا واعتبر مقتله عملا حربيا. كانت الحرب الطويلة التى أعقبت ذلك الانقلاب بين بلاد فارس والامبراطورية البيزنطية، أشبه بحرب عالمية، انهار النظام الدولى الراسخ وترك الشرق الأدنى يتعرض للهجوم والصدمات لعقدين ونصف عقد. وانتهت الحرب مع ظهور الإسلام دين يحمل رسالة سلام أساسية.
هذا العالم الذى ولد فيه الإسلام، هو جزء من الحجة التى يقدمها المؤرخ الأمريكى والأستاذ بجامعة ميتشيجان، خوان كول، فى كتابه «محمد نبى السلام وسط صراع الامبراطوريات» الذى يوضح من خلاله كيف ادرك النبى محمد صلى الله عليه وسلم أسباب العنف الذى ابتلى به عالمه ، وأسباب فشل النظام الاجتماعى والسياسى القائم فى منعه؛ لذا كان الإسلام وقرآنه دليلا لتأسيس مجتمع بديل اتخذ السلام كأساس له. يشير كول إلى أن انخراط النبى فى الحرب والغزوات والمعارك النبوية كان من أجل الدفاع عن النفس ضمن عقيدة «الحرب العادلة» الإسلامية، ولم تكن بهدف العدوان أو السيطرة.
هذه الخلفية من الصراع بين الإمبراطوريات والحضارات تحتل الكثير من مادة الكتاب التى تشرح بدايات الإسلام، حيث يرى كول أن الإسلام قد نشأ من خلفية دولية. ويصور النبى محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره عالميا سافر على نطاق واسع واستوعب الأفكار من مجموعة من الثقافات،وبينما يتتبع كول قصة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة وخارجها، يرسم صورة لزعيم روحى متواضع كان ملتزما بالحوار والحل السلمى لجميع النزاعات، والمعاملة العادلة لأشد أعدائه. يكتب كول : «دين محمد كان منتصرًا ولكن ليس انتقاميًا». يعتبر المؤرخ الأمريكى أن ثقافة العنف ربما نشأت بين بعض أتباع النبى محمد بعد وفاته، مؤكدا أن القراءات المتقاربة للقرآن تدل على دعوة محمد صلى الله عليه وسلم للسلام والمصالحة والعدالة الاجتماعية، واضطراره فى بعض الأحيان إلى الحرب بسبب الاضطرابات الإقليمية، مؤكدا أنها لم تكن «حربا مقدسة» كما يصورها البعض. ويضيف «مثلما برر المسيحيون حروبا مقدسة وغزوات دموية وتحولوا بالسيف من خلال القراءات المنحرفة للكتاب المقدس، فإن تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم قد انحرفت من قبل أولئك الذين وجدوا لأنفسهم ربحًا فى الحرب». يجادل الكتاب بأن حرية العقيدة الفردية تقع فى قلب المجتمع الذى أسسه محمد صلى الله عليه وسلم، فوفقًا للعقيدة الإسلامية لا ينبغى إجبار أحد على الاعتقاد أو الكفر فى الإسلام أو أى دين آخر. ولم يكن ليوجد سلام إذا لم تتم حماية هذه الحقوق.
يصور كول مؤسس الإسلام كصانع سلام أراد فقط أن يعظ برسالته بحرية، وحاول إقامة توافق مجتمعى «متعدد الثقافات». وتقدم السنوات الأولى من مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، التى أمضاها نبيًا وزعيما لأقلية دينية مضطهدة فى مكة، أدلة كافية لدعم هذه الحجة، بالإضافة إلى الفترة التى أمضاها هو والمهاجرون معه فى المدينة المنورة. ويعتبر أن هناك صورة أكثر تقدماً للنبى محمد صلى الله عليه وسلم، فى انتظار أن يتم اكتشافها ليس فقط من قبل غير المسلمين، ولكن أيضًا من قبل العديد من المسلمين أنفسهم.
يأتى هذا الكتاب ليكسر الصورة النمطية المشوهة للإسلام ولنبيه كما يروجها البعض فى الغرب باعتباره متطرفًا أو عنيفًا بطبيعته، أو أن انتشاره جاء بحد السيف وسفك الدماء - وهو سرد طغى على حقيقة جذوره التى يعيد سردها خبير الشرق الأوسط البارز موضحا خطأ تلك الصورة، وكيف انتشر الإسلام بالقوة الناعمة وليس القوة العسكرية، حيث كان النبى محمد يؤسس لعقيدة أن السلام هو القاعدة الدائمة وليس الاستثناء. يلقى كول الضوء على هذا التاريخ المنسي، ويذكّرنا بأن إرث ذلك الدين ورسالته الروحية مستمر بالقرآن. لذا يأتى «محمد نبى السلام» فى الوقت المناسب، حيث يتم اعتبار الإسلام تهديدا للغرب ليكون بمثابة مرآة تعكس الاضطرابات فى عصرنا وتوجد لها الحلول وتفسرها.

-
رحلة فى «السنة» تكشف أزمات تحريف الأحاديث النبوية
فى الإسلام، كانت هناك دائما مناقشات ونزاعات من قبل الجماعات والطوائف المختلفة التى تدعى أنها تملك الحقيقة حول الإيمان. ولا يمكن الحديث عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم دون التطرق لسنته وإرثه المتمثل فى الحديث النبوي، ولا يمكن تفسير أو فهم الحديث أو القرآن دون الآخر بالنسبة لأى مسلم أو غير مسلم يريد فهم الإسلام بطريقة صحيحة، وعلى مدى العصور كان هناك جدل حول فهم الأحاديث وتأويلها والتشكيك بصحة بعضها، واستغلال بعض الجماعات الأصولية لبعض الأحاديث الضعيفة أو حتى اجتزاء أخرى من سياقها وتوظيفها لخدمة أهدافهم المتطرفة. كما يتم استخدامها من قبل المعادين للإسلام من أجل الإساءة له والهجوم عليه. لذا تظل قضية التحريف وسوء الفهم لبعض أحاديث النبى قضية ساخنة تسلط الضوء على الطرق المربكة التى يتم بها النظر إلى الإسلام نفسه.
من هنا تأتى أهمية كتاب «تحريف حديث محمد: التحدى وخيارات تفسير تراث النبى»، حيث يحلل الأساليب التى يتم بها سوء الاقتباس والنقل عن احاديث النبى سواء كانت متعمدة أم لا. ويتتبع تاريخيا كيف ولماذا نشأت الخلافات حول الحديث النبوى وتفسيره واستخدام بعضه فى تفسير القرآن، مقدما نظرة متعمقة حول الجوانب الأساسية والمثيرة للجدل فى الإسلام. ويوضح الكتاب كيف سعى رجال الدين المسلمون المستنيرون إلى الموازنة بين العقل والوحي، وبين العلم والدين، وتفسير الحقائق الأبدية للقرآن وسط القيم المتغيرة، يحاول الكتاب الوصول إلى ما وراء هذه المناقشات واستعراض المقاربات الغربية لتفسير الأحاديث عبر سبعة فصول وأربعة ملاحق.
وتأتى أهمية الكتاب أيضا من أهمية مؤلفه، جوناثان إيه. سي. براون، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة جورج تاون، الذى اعتنق الإسلام عام 1997، وألف كتبا مهمة عن الإسلام والحديث من بينها: «ميراث محمد فى العصور الوسطى والحديثة»، «تقديس البخارى ومسلم: نشأة ورسالة شرعية الحديث عند أهل السنة».وهو رئيس تحرير موسوعة أكسفورد عن الإسلام والشريعة.ويتميز الكتاب بالعديد من الإشارات المرجعية للمفكرين السابقين والحاليين مما يتيح للقارئ استعراض التاريخ الطويل للمناقشات حول القضية وكذلك الإحاطة بمقارنات مع المفكرين الغربيين والمسيحيين مثل القديس أغسطينوس ومارتن لوثر وإيمانويل كانط. ومن أجل إظهار مدى توازن العلماء فى رغبتهم فى الحفاظ على صحة النصوص الإسلامية مع حقائق ومتغيرات حياة الناس؛ يلخص براون هذه القضايا تحت عناوين جذابة.
يستهل بروان كتابه بتحديد المشكلة الرئيسية أنه فى القرون الماضية، لم يكن لدى الإسلام رجال دين رسميون. لذا أخذ العلماء دورًا فى توجيه المسلمين. لكن فى الوقت الحاضرهناك مجموعة من المنافسين الذين يريدون السيطرة، ضاربا المثل بوضع مصر، حيث هناك الجماعات السلفية المتشددة مقابل، الأزهر الشريف الذى يمثل الوسطية.فى رأيه أنجز العلماء السنة أعظم الإنجازات الثقافية والفكرية فى تاريخ البشرية.لم يستطع الصليبيون ولا المغول إزاحة احتكار الفقهاء السنة المعينين ذاتيا لتحديد الممارسة والمعتقدات الإسلامية الأصيلة. لكن الاستعمار الأوروبى كان مختلفا، فقد أنشأ المستعمرون البريطانيون والفرنسيون مؤسسات تعليمية جديدة كجزء من «مهمتهم الحضارية»، حطمت احتكارات علماء الدين فى مجال التعليم. يوضح الكتاب كيف نجت المؤسسة العلمية السنية «الأزهر» من العواصف الفكرية وأعادت تأكيد سلطتها عقب الاستعمار والقومية والعلمانية والناصرية والاشتراكية.
يناقش براون «خريطة التقليد الإسلامى فى التفسير»، حيث يفرد مساحة كبيرة لتفسيرات الشاه ولى الله، وهو سليل عشيرة من العلماء فى دلهي، معتبرا أنه يمثل نموذجا فريدا للتجديد الإسلامى فى التفسير. يرى براون أن النص يعتمد على تفسير القارئ. ويؤكد أنه فى أى دين، فإن التفسير التقليدى يقوم على معضلات ويؤدى دائمًا إلى جذب المناقشات وردود الفعل. ويوفر نظرة عامة على ثلاثة موضوعات - الموروث، والعقلانية، والتصوف - و يؤكد أن «السبب» يجب اعتباره المصدر الثالث للتوجيه، إلى جانب النصوص الكتابية.
ويوضح براون تصنيف الأحاديث وفقا لأصالتها كصحيح وضعيف حتى ما يبدو منها صحيحا تقنيا، ولكنه يناقش منطقيته وأسباب ضعفه، وهو بذلك يتقاطع مع أحد أكثر النقاشات الجدلية على مدى العقود القليلة الماضية حول ما إذا كان يمكن استخدام الأحاديث الضعيفة أو المحرفة للإشارة إلى تعاليم ومبادئ النبى محمد الحقيقية. يبرز كيف أجبرت أزمة الحداثة فى العالم الإسلامى منذ القرن التاسع عشر العديد من المسلمين على إعادة تقييم علاقتهم بالقرآن والحديث،وإعادة تقييم المقاربات الكلاسيكية لكل منهما، حيث تأثرت مقاربة المسلمين لهما بمنظورهم المعرفى إلى العالم، مؤكدا أن النظرة المعرفية العالمية للمؤرخين الغربيين المعاصرين، التى تتجذر فى تفسير الأحداث والظواهر من خلال أسباب مادية أو اجتماعية، قد أثرت بشكل كبير على المجددين الحداثيين بالعالم الإسلامى منذ أوائل القرن العشرين.
الكتاب ثرى جدا ومتشابك فى تناوله للعديد من القضايا المرتبطة بالسنة النبوية والأحاديث الشريفة والعلاقة بين الحديث والقرآن، ويمثل إضافة كبيرة لتسليط الضوء على الجدل المحيط بتلك القضايا، ومقاربات علماء المسلمين فى الشرق ونظرة الغرب لها.

رابط دائم: