رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أفراح الذاكرة: الملك فاروق.. وهدايا المانجو الصيفية

السماح عبدالله

فى الخامس عشر من نوفمبر عام 1943، كان الملك «فاروق» يقوم برحلة صيد للبط البرى قرب قرية القصاصين التابعة لمديرية الإسماعيلية، حمل على كتفه واحدة من بندقيتى الصيد المطعمتين بالأحجار الكريمة اللتين أهداهما له «جورج السادس» ملك بريطانيا بمناسبة زواجه من السيدة «صافيناز ذو الفقار» والتى كان خطيبها يدللها باسم «تافيت»، قبل أن يغير اسمها فى الأوراق الرسمية بعد زواجه منها إلى اسم «فريدة» لكى يبدأ اسمها بحرف الفاء كعادة أسماء العائلة المالكة فى مصر، كان الملك سعيدا جدا بصيده الوفير، حيث كان البط البرى يتدلى من جانبى العصا التى يحملها خادمه الوفى، نظر إليه وإلى بطه المصطاد نظرة رضا، وأمره بأن يسبقه إلى القصر مع الحاشية.

....................

سكرتيره الشخصى سأله:

وأنتم يا مولاى، ألا تصحبوننا فى رحلة العودة؟.

ابتسم جلالة الملك وهو يجيبه:

لا، أنا سأقود سيارتى بنفسى، وأعود إلى القصر وحدى.

تحركت الحاشية فى تقاطر بروتوكولى، وكانت تحمل فيما تحمله البط المصطاد، ولما اطمأن جلالة الملك إلى سير الموكب، ركب سيارته المرسيدس بينز الحمراء الفخيمة التى أهداها له الزعيم الألمانى أدولف هتلر، بمناسبة زواجه السابق ذكره، كانت السيارة جديدة على الأسفلت المصرى، لم يكن لها نظير فى بر مصر، وكانت سرعتها فائقة، والملك، الذى كان فى الثالثة والعشرين من عمره وقتها، كان فيه من حماس الشباب ما يجعله واثقا من قدراته فى قيادة السيارة العجائبية التى ما إن يضغط على دواسة تغيير السرعات بقدمه ضغطة خفيفة، حتى تصبح كبساط الريح.

كان الوقت عصرا، وكان المكان بمحاذاة قرية القصاصين، تحديدا أمام بوابة معسكر المنشآت الهندسية رقم 140، عندما فوجئ الملك العشرينى الشاب، بمقطورة عسكرية انجليزية، تنحرف إلى اليسار قليلا لتدخل المعسكر، لف مقود السيارة فى اتجاه اليمين تفاديا لسقوطه فى الترعة، فاصطدمت سيارته الحمراء بمقدمة المقطورة اصطداما شنيعا، مما أدى إلى طيران عجلتيها الأماميتين، وتكوم الملك الشاب على الطوار، وكان ينزف.

أكثر اثنين اهتما بتمريض الملك اهتماما خاصا، هما الطبيب الشاب «يوسف رشاد»، وزوجته «ناهد رشاد»، اللذان كانا يتناوبان السهر عليه بجوار سريره، كان الطبيب يعطيه الحقن فى مواقيتها، وكانت زوجته تطعمه اللقيمات بيدها فى فمه فى مواقيتها.

لكن الملك الشاب بدء يشعر بالقلق على حياته، وقد أدرك بأنه مرصود، وهنا همس فى أذنه طبيبه الشاب بالحل:

لا بد من تنظيم سرى خاص، تكون له مهمتان خاصتان، الأولى، حمايتكم من أى أذى، والثانية، تصفية خصومكم.

راقت الفكرة للملك الشاب، وأعطى الإشارة لطبيبه الخاص بالبدء فى تكوين الحرس الحديدى، هذا التنظيم الذى كان من أبرز أعضائه اليوزباشى «سيد جاد»

كان اليوزباشى «سيد جاد» يملك عزبة اسمها «عزبة جاد» بالعياط، وكان «محمد شعراوى باشا» يملك عزبة اسمها «عزبة فيشر» بالصف، التجاور الجغرافى بين العزبتين جعل صاحبيهما يتصادقان، رغم ما بينهما من اختلاف.

التجاور الجغرافى للعزبتين لم يكن هو السبب الوحيد لنشوء الصداقة، لكن ثمة سببا آخر ربط بينهما برباط قوى، هو حبهما للنساء والسهر والشرب، أما الاختلاف فهو اختلاف سياسى، فاليوزباشى «سيد جاد» يكره الانجليز، وقام بالفعل بقتل عدد غير قليل منهم، من خلال عمليات سرية كان يقوم بها بتكليف من التنظيم السرى «الحرس الحديدي»، أو بدافع شخصى من وطنيته، وكان يحب الملك «فاروق» جدا، وقد أقسم له بيمين الولاء، وبأنه على استعداد للتضحية بنفسه فداء له، أما «محمد شعراوى باشا» فقد كان محبا للانجليز، وعلى علاقة وطيدة بالمندوب السامى البريطانى، ليس هذا فحسب، بل وصلت علاقته بالانجليز إلى درجة أنه كان على اتصال مباشر بقصر بكنجهام حيث مقر الأسرة المالكة التى تحكم بريطانيا، وكان يكره الملك «فاروق» جدا.

هو ابن «هدى هانم شعراوى» و «على باشا شعراوى»، وإذا كانت أمه قد احتلت مكانتها الكبيرة فى قلوبنا من خلال دورها النهضوى فى بدايات القرن العشرين، فإن أباه كان واحدا من أكبر معاونى الانجليز، حتى إنه بعد هزيمة «أحمد عرابى» فى التل الكبير، قدم للجنرال الانجليزى «ولسلى» هدية عظيمة، عبارة عن طبنجة من الذهب الخالص مرصعة بالزمرد والياقوت، تعبيرا عن تقديره للدور البطولى الذى قام به فى محاربة الضابط المصرى المارق «أحمد عرابى»، وكسره بشجاعة منقطعة النظير.

أما اليوزباشى «سيد جاد»، فقد كان كل ما يخشاه أن يكلفه الملك «فاروق» باغتيال صديقه، فهذا التقارب الكبير بين الباشا والانجليز، كفيل بإثارة حفيظة الملك ضده، لكن الغريب فى الأمر، أن الباشا هو الذى كان يريد أن يتخلص من الملك، لم يكن الباشا، كما لم يكن أى أحد، باستثناءات قليلة، يعرف أن اليوزباشى «سيد جاد» على علاقة بالملك، وأنه واحد من مؤسسى تنظيم حرسه الحديدى، لذا، ميل عليه فى إحدى سهراتهما الصاخبة، وهمس فى أذنه:

أتمنى لو اننى أجد شخصا يقتل «فاروق».

كانت عزبة فيشر التى يملكها «محمد شعراوى باشا»، تنتج أجود أنواع المانجو فى مصر كلها، وكان من عادته صيف كل عام، أن يرسل هدية إلى العائلة المالكة فى قصر باكنجهام فى لندن، عبارة عن حمولة مركب من هذا المانجو الذى لا مثيل له.

اليوزباشى «سيد جاد» يكره الانجليز، ويعمل لمصلحة وطنه، سواء من خلال تنظيم الحرس الحديدى، أو من خلال رؤيته الخاصة، كان تقريبا متخصصا فى القتل، يقتل بدم بارد، ويقتل وهو يبتسم، ويقتل وهو يأكل، حتى إنه تفنن فى اختراع أساليب حداثية للاغتيالات، فقد شاع أمر العربة السوداء التابعة للحرس الحديدى، والتى لا تتم عملية إلا ويجدونها فى مكان الحادث، فتفتق ذهنه عن صيغة القتل الفنى، التى لا تكلف طلقة واحدة، وبعيدة تماما عن العربات الغامضة والقنابل والمدافع المدوية، صيغة القتل الفنى هذه، عبارة عن دبوس مسموم، يشك به الهدف المطلوب قتله، وخلال ساعات يكون قد مات، وقد تقدم للدكتور «يوسف رشاد» بهذا الاقتراح، الذى عرضه بدوره على الملك، فأقره، وكان لا بد من تجربة، فسافر «سيد جاد» إلى السويس، وفى إحدى الطرقات اصطدم بيوزباشى إنجليزى، وغرس فى ذراعه الدبوس المسموم، فصرخ، لكن «سيد جاد» ظل يعتذر له، ويطيب خاطره بكلمات مهذبة، فتركه اليوزباشى الانجليزى، وتقبل اعتذاره، ومضى، وظل يتابعه من شارع لشارع، حتى وجده يسقط على وجهه فجأة، ويموت، ونجحت التجربة.

هو يحب صديقه «محمد شعراوى باشا»، فماذا يفعل، وقد عرف بأمر الهدية السنوية التى تتجه إلى لندن، عابرة البحر، لتصل لأيدى محتلى بلاده، وهى التى زرعت فى هذه الأرض؟

لم يطل تفكيره كثيرا، اتخذ القرار، وبدأ فى التنفيذ.

كان من المفترض أن ينطلق المركب البخارى الخاص، من عزبة فيشر فى الصف، شاقا مياه نهر النيل، واصلا إلى الإسكندرية، ومن الميناء يتم شحن الهدية إلى جلالة الملك البريطانى فى قصره.

فى الموعد المضبوط، وقف اليوزباشى «سيد جاد» ورجاله فى قارب صغير عند حلوان، ينظرون بالمناظير الميدانية فى اتجاه الجنوب، كانوا مقنعين بأقنعة تخفى وجوههم تماما، وما إن اقترب منهم المركب البخارى الخاص بالباشا، محملا بالهدية الثمينة، حتى أطلقوا النيران فوق رءوس عمال النقل فتوقف الوابور، وهبط اليوزباشى ورجاله الملثمون من قاربهم الصغير إلى الوابور، وبدأوا فى إشاعة الذعر بين عمال الوابور، وطالبوهم بإلقاء الحمولة كلها فى النيل، ولما استجاب العمال لطلبات هؤلاء القراصنة المقنعين، أراد اليوزباشى «سيد جاد» أن ينهى الأمر إلى الأبد، فبدأ فى مخاطبة العمال بلهجة هادئة غير اللهجة العنيفة التى كان يحدثهم بها، وأوضح لهم أنه هو ورجاله، من الفدائيين المصريين الذى نذروا أنفسهم لخدمة بلادهم، ومن غير المعقول أن يحارب الوطنيون الشرفاء الانجليز، وأنتم ترسلون هدايا المانجو لهم، وهددهم بأنهم إذا ما كرروا المحاولة هذا العام، أو فى أى عام آخر، سيكون مصيرهم أن يلقى بهم، هم والمانجو، فى قاع نهر النيل.

وهكذا، عاد المركب البخارى إلى المكان الذى انطلق منه، وهبط منه عمال النقل، ليحكوا ما حدث للباشا، الذى ظل لفترة طويلة فى حيرة من أمره، ولا يعرف من الذى أبلغ الفدائيين بأمر هديته الثمينة؟.

فى لقائهما المعتاد، قال الباشا لليوزباشي:

تصور يا صديقى، هناك من يتجسس عليّ، وينقل أخبارى للفدائيين.

لكن اليوزباشى وضح له أن وراء هذا الأمر الملك «فاروق» وليس الفدائيون.

اتسعت عينا الباشا دهشة، وسأله:

وما العمل إذن؟

بهدوء أجابه اليوزباشي:

عليك ألا تتصل نهائيا بالانجليز، أما فيما يتعلق بالهدية السنوية، فيمكن تغيير مسارها.

سأله:

كيف؟

قال:

فلتذهب بها إلى الملك «فاروق».

وهكذا، ابتدأت صفحة جديدة من العلاقات الودية بين الباشا والملك، وأصبح من المعتاد فى صيف كل عام، أن تقف عربة محملة بأجود أنواع المانجو أمام قصر عابدين، فيما انقطعت تماما هذه الهدايا التى كانت تعبر البحر واصلة لقصر باكنجهام.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق