رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

دوستويفسكى.. ولذة الإهانة

داليا الحديدى

يقولون إن الكلام متسخ فيما الكتابة نَظيفة، ويقولون أيضا، إن الإهانة مُرّة بينما التَكريم مُشتهى.

لكن للدقة، فليس كل الكلام مُتسخ وليست كل الكتابة طاهرة. وبالمثل، ليس كل تكريم مُشتهى، لكن للغرابة، فإن فى بعض الإهانة لذة.

...........................

وأول من أشار «للذة الإهانة» كان دوستويفسكى فى رائعته «الإخوة كارامازوف» حين كتب:

«إن فى إهانة المرء لنفسهُ لذّة، لقد ظللتُ طوالَ حياتى أُهين نفسى، نشدانا للذة، وطلبا للجمال، لأنَّ الإهانة ليستْ متعة فحسب، بل يمكن أحيانا أن يكون فيها جمال أيضا، ألا يشعر المرء بكثير من اللذة حين يشعر أنه مُهان. وهو يعلم أنه ما من أحد قد وجه له كلمة سوء، وإنما اخترع الإهانة ليتلذذ بها وكذب على نفسه وبالغ وحمل الكلمات على غير معناها ليهين نفسه متلذذا لحد الفرح».

وفى روايته «المقامر» عاود دوستويفسكى الإشارة للذة الإهانة:

«الناس فيما يتصل بالأرباح والخسائر، لا فى «الروليت» فحسب، بل فى كل مجال آخر، إنما يحركهم دافع واحد هو الربح أو انتزاع شيئا من شخص آخر.»

فخسارة الأخر قد تُعد -فى حسبانهم- مكسب، وبالمقابل، فانتزاع التعاطف نتيجة إهانة أو استدراج شخص للوقوع فى خطأ التطاول للتربح من زلاته يُعد ربحا معنويا، بإظهار المُهان لتسامحه بإزاء من وبخهه.

بالنهاية، فهناك من يصر على المكسب أهان أو أُهين، المهم ألا يخرج من الموقف حاصدا قبض الريح.

وأواه مما يَعتمل فى القلوب المخادعة، النتنة.

وقد ورد فى العهد القديم أن:

»»القلب أخدَعُ من كلّ شيءٍ وهو نجيسٌ.

»إرميا 17: 9»

- فالتربص لفرصة «خِزى» قد تؤتى أُكلها بعد حين، لدليل خُبث القلب، فصاحب الفؤاد النتن يعلم على أى وتر يجب أن يضرب، ولو ضرب نفسه، تلذذا بإهانة قد تُثمر تعاطفا أو تعبئة شعبية.

- فقد نصادف فى الحياة من يجيدون لعبة «ضربنى وبكى، وسبقنى واشتكى» وقد نقابل أيضا من يرون فى الإهانة فتنة ما لها نظير أو من ينساقون مع أحزانهم حد التلذذ بل حد التكسب أذ يتقوتون بعشب الإنكسار، و يعرف هؤلاء باسم

Drama Queen

فالتمسك بدور الضحية المُهانة غدا مصدرا للدخل المعنوى والمادى -إن اتقنوا الدور- حتى لترى البعض وأكرر البعض لأن هذا الطرح لا يمكن تعميمه، فهو على سبيل التبعيض- لكن ثمة قلة تؤثر الحفاظ على كل مضطرب فى حياتهم، ربما لفقدانهم الشعور بالأمان الذى بات، غير مستقر، كرقاص الساعة، ما ولّد لديهم قناعة أنهم إن عجزوا عن الحصول على لقمة الهناء بكرامة، فليكتسبوها بالإهانة، فلا عجب لو وجدتهم يعسعسون بانتظار لحظات المناكدة كسوق لبضائع معنوية امتهنوا التربح منها.

- وفى رواية «بطل من هذا الزمان» كتب «ليرمونتوف»

: «أن تكون مبعث ألم ولذة لآخر، دون أن يكون لك حق فى ذلك، أليس هذا أعذب غذاء تتغذى به كبرياؤك؟ وما هى السعادة؟ إنها ارتواء الكبرياء.»

فحتى الدول تختلق مشهد الإهانة العلنية ثم تصرخ صرخة «زكى طليمات» فى فيلم «صلاح الدين» «وبسهٍم عربى» لترتب لنفسها فرص غزو دولة أخرى للإستيلاء على مواردها ونفطها، فتتغذى موارد الدولة الغازية ويرتوى كبرياؤها المُصطنع زيفا من إهانة مفتعلة لإنهيار برجين.

- وكما الدول تضع استراتيجيات للتربح من الإهانة المصطنعة، فبالمثل قد تشبع «لذة الإهانة» أفرادا يتفيقهون بالسليقة للتربح من عدم وعى الأخر لفكرة الخطأ أو من سُبات الجمهور، بمعنى أن المتربحين من الإهانة يدركون أن محيطهم لا يلحظ جرائمهم، فيترجمون الحُزن الزائف على أنه فضيلة، فينساق المتربح لفعل الإستهبال، مُستغلا جهل محيطه للإسترزاق من تمثيل دور المُهان الذى يتحامل على الأذى بنبل المستعصم بالأخلاق، كمن يلعق دمعته من غلته كأنين ناى حنون، ليسوغ عمل فى ظاهره العفو والتضحية، لكن فى باطنه الضلال.

- وقد يكون المتربح بالإهانة، شخصا بسيطا، لا يخطط عن دراية، بل عن اقتباس لأساليب ابتزاز نفسية قد ثبت رواجها وربحها بالتجربة التى أكدت أن تلكم الحيل تنطال على المجتمع. فذاك يقبل أن يكون حصان عربة لا حوزى، فيرضى أن يصبح عبدا لأسلوب الأخرين، لا سيدا لأسلوبه هو.

- ومهارة المتربح من الإهانة قد يكون منبعها أنه هو نفسه قد تجرع سلفا تلك الخديعة، فبحسب «ليرمونتوف»:

«الشر يَلِد الشَر، والألم الأول الذى عانيته يُطلعكَ على اللذة التى يُحققها لك تعذيب الآخرين.»

- والأمثلة كثيرة، فهناك الأخ الذى يُلمح لقطيعة شقيقه له، مدعيا أن رغم قسوة بن أبيه معه، إلا أنه يُسامحه، دون الإشارة لسبب المقاطعة وهو تحرشه بزوجته مثلا، بل يركز على أنه اتصل بشقيقه مرارا، لكنه يغلق الخط.

- أو كأم تَئِن من جحود ابنتها للتكسب من موقفها المدعوم من المقدس، فيما تحذف مشهد تفريطها فى شرف ابنتها، يوم باعتها صغيرة بدراهم معدودة، وكانت فيها من الزاهدين، لتتركها فريسة لآلام الإنتماء، فتتكسب الأم من موقف الإبنة التى تبدو عاقة أمام الناس، لتستثمر موقفا فى ظاهره العقوق، بيد أنه يخفى مأساة. فهى توقن أن كسر قلب ابنتها لم يحدث دويا لأن احدُا لا يعلم به، فيما نحيبها على رد فعل صغيرتها سيكون صداه صاخبا.

فلطلقات طبنجة الإهانة إغواء يثير الأبله، كما دموع التماسيح تثير الشفقة، فأعمى القلب يعجز عن سماع أنين القلوب المهشمة.

فالأم تعلم بنفور ابنتها منها، فتتعمد زيارتها، كأنها لم تقارف جُرما، بل وتلعب دور الصبورة على جفاء الإبنة، أملا فى ردة فعل مهينة من صغيرتها، ليكون الأمر بينهما «كيت»، فتُقبل الأم على ابنتها بجَهد البكاء فى مشهد حزن عالى الجناب، ثم تكفكف الدمع وتُعلن عن عفوها عن إهانة صغيرتها.

فالإهانة العلنية تخفف عنها الشعور بكونها ظالمة.

- وهنالك الزوج المخلوع الذى يعيش دور الضحية بعد أن مرر حياة شريكته، ولبخله الشديد، فهو على استعداد أن يبقشش من كرامته وأن يبدو ذليلا مهانا، بل ولديه الإستعداد لتقبيل أقدام زوجته علنا أو ارسال باقة زهر، شريطة ألا يدفع تعويضا ماديا معتبرا للمقهورة.

فهو يتلذذ بظهوره كتائب منكسر أمام غرباء يجهلون تاريخ جبروته الأسود.

- تلك نماذج وإن لم تكن منتشرة فى المجتمع، إلا أنها ضليعة بفن صناعة الإسراف فى الاستقامة واستضافة الحزن النبيل، عدا أنها تتغذى وترتوى على مشاعر المظلومية، ومع هذا، فلديها القدرة على إجراء وثبة عفو تبرهن بها على عظيم تسامحها.

- هى شخصيات ماهرة بالسليقة فى ارسال الإيعازات اللفظية والغير لفظية مستعينين «باللهجة أو النبرة المنكسرة أو لغة الجسد» وهم ثالوث لمستودع السلوكات الذليلة الخاضعة، فيخدعون محيطهم ويكسبون تعاطف من يحكم ببصره. فالعوام يفتقدون البصيرة، فيهرفون بما لا يعرفون.

- مثال آخر لشخص قد يمدح صديقه، فيتجاهله لإدراكه أن المادح لا يحبه بل «يرى نفسه.. فى مكانته»، فهو يصفق لمنصبه الذى يتطلع لتقلده ولا يصفق لشخصه. فيحجم الممدوح عن رد الثناء لعلمه أن المديح مُغرض.

وإن فشل المطبلاتى فى تدعيم علاقته مع الشخصية الناجحة، فلا ييأس من التربح من صورة الضحية، فيتمسك بإهانة تجاهل الناجح له ويتلذذ بها و يروج لكون صديقه الذى أعانه بالتشجيع، قد خذله بالإهمال دون التنويه لكونه جرع صديقه مرار الإحساس بأن شخصا يريد أن يحسد ما لم يحصد.

وكان حريا بالمادح -لو لديه كرامة- أن يعتصم بالصمت أو يتسلح بالإقصاء مع من تجاهله. فحين تُسَلّع الكرامة، هنالك تستخدم الإهانة، لتكون طُعما لسنارة اصطياد إما التقدير الزائف وإما التعويض المعنوى أو المادى.

فلذة الإهانة تجعل البعض يتلذذ بتجرع سم الهوان، تطلعا للهتاف للشهيد عوضا عن فقدان دور قيادى لم يتح له.

فالتشبث بأى مكسب ولو كان مخزيا كالإهانة يحرف ادراك الواقع فيحرض المهان على التلذذ بنصف مكسب الإهانة، طالما عجز عن الحصول على نيشان الكرامة.

ومن ثم، فحرى ألا تكون الإهانة مستندا نهائيا فى وزن المكاره، طالما يستمتع بها البعض.. نشدانا للمصالح.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق