لم تفقد صوابَها بالمعنى المتعارَف عليه، اختلت ربما قليلا أو كثيرا، لا تعلم بالتحديد ما الذى دفعها إلى ارتداء هذا المعطف الفرو، شكله يدل على أنه كان شيئا فاخرا جدا منذ أكثر من نصف قرن، تخيلت إحدى سيدات المجتمع الراقى ترتديه فى إحدى حفلات القصر المَلَكى، تخيلت البروش الألماظ وهو يضيء تحت رقبة هذه الأميرة التى لا تعرفها بالتأكيد فقد حصلت على هذا المعطف بمحض المصادفة، فهى لم تكن أبدا مِن عشاق شراء البالة، ولم تهتم مطلقا بأن تحتفظ فى منزلها بقطعة أثاثٍ تنتمى لأحد الملوك أو المشاهير، فوجئت بتلك السيدة تطرق باب منزلها وتعرض عليها هاتين القطعتين من الثياب المستعمَلة، حاولت إقناعها أنها لا ترتدى هذه الثياب الرثة، وحاولت أن تعتذر لها بلطف، وأبدت لها استعدادها للمساعدة المادية دون شراء الملابس، ولكن أخذتهما بعد إلحاحٍ من السيدة وتوضيح أنها تحتاج المال وترفض الصدَقة.
ارتدت المعطفَ الفرو الرث المصنوع من المنك الفاخر، ألوانه باهتة لدرجةٍ تثير الاشمئزاز الذى ظل سنوات يرقد فى خزانتها ولكن شيئا ما فى هذا الصباح دفعها بقوةٍ لا تستطيع مقاومتها لارتدائه، فتحت باب غرفتها، وقفت أمام المِرآة تعيد النظر فى مظهرها وهى ترتدى هذا التاريخ الذى لا تنتمى له، وإذا بشيء يدفعها للخروج من المنزل، تعى جيدا أن الجو فى الخارج مشمِس دافئ، وأنها ستبدو كالبلهاء فى هذا المعطف الوثير، لا يوجد مبرر منطقى واحد يدفعها لارتدائه، ولكنها أيضا لا تعلم كيف جرؤت على فِعل ذلك! خرجت وأوقفت السيارة الأجرة، ركبت وتحركت متجهة إلى وسط المدينة حيث تجلس نجوى التى يعرفها الجميع كمَعلمٍ من معالم وسط البلد، وكأنها حانة شهيرة أو تمثال نَحَته فنان عالمى، نجوى بملابسها القديمة وموضة أربعين عاما مضت، حتى تسريحة شَعرِها المصففة بطريقة الريترو، والتى جعلت الجميع يندهش من قدرتها الهائلة على تصفيف شَعرِها بهذه البراعة يوميا.
أمّا هى، فكان السؤال الذى يلِح عليها: إذا ما رأت نجوى كيف تجرؤ امرأة أن تسير بهذه التسريحة وهذه الملابس والتى تجعلها تبدو كأنها قطعة أثرية خرجت لتوِّها من المتحف؟! كانت تتساءل ألم تلاحِظ نجوى أن الموضة تغيرت؟ وأنه لا توجد سيدة أخرى فى الشارع تصفف شَعرها بهذه الطريقة؟ ألم تنتبِه أن ما ترتديه من ملابسَ لا توجد فى الفاترينات ولا على صفحات الجرائد، ولا صور الممثلات أو أفيشات الأفلام على دور السينما؟! وكانت الإجابة الوحيدة هى أن نجوى مختلّة عقليا! وبينما كانت السيارة تخترق الشوارع بحماس كانت نهى تردد لنفسها «أنا لست مختلّة، وأدرِك جيدا أن هذا المعطف لا يناسبنى، وأنه رَثّ، وأن الجو فى الخارج مشمِس حار، ولكنى أشعر بالدفء فيه مِن صقيعٍ لا يشعر به غيرى، لماذا لا أرتديه؟» وصلت السيارة الأجرة إلى وسط المدينة، بدأت نهى تشعر بدوار خفيف ربما بعض من الوعى أرادت لوهلة أن تخلع المعطف خافت من نظرات الجميع لم يرها حتى الآن بهذا المعطف سوى السائق.
لا تعرفه سينساها ويحمد الله أن هذه المختلة نزلت من سيارته دون أن تصيبه بأى سوء ولكن الآن إذا ما نزلت من السيارة سيجب عليها مواجهة الجميع. الجميع الذين لا يعرفونها ولكنهم يظلون «الجميع» نزلت نهَى من السيارة مرتدية معطفها الرث قررت التسكعَ فى شوارع العاصمة، وكان السؤال الملِح، هل ينظر الناس لى الآن كما ينظرون لنجوى؟ لم تتحمل التسكع طويلا هربت من العيون التى تحاصرها بنظرات الدهشة أو الاتهام وأحيانا السخرية هكذا هيئ لها، ففى هذا الصباح الصيفى الحار كانت الشوارع شبه خالية. لا تعرف لماذا قررت الذهاب إلى إكسلسيور بالتحديد، هل بحثا عن نجوى أم بحثا عن شىء ما فى هذا المكان الذى يحتضن نجوى؟ كانت الأسئلة الكثيرة تحاصرها، هل ستجد فى هذا المقهى آخرين يشبهون نجوي؟ هل ستجد مثلا رجلا يرتدى حلة من قماش الإسموكن أو فتاة صغيرة ترتدى جيب موضة البليسيه فاجأتها تخيلات؟.. أن فى هذا المكان ربما تجد آمال فريد أو إيمان ربما تجد بعضا من أفراد الأسرة المالكة، من المؤكد أن هناك آخرين ينتمون لزمن نجوى.. لم تجد شيئا من هذا وجدت كثيرين آخرين يشبهون أيامها يحتمون من الحر فى قاعة المقهى المكيفة، شعرت بذبذات الخوف من فتاة تقاطعت معها عند باب الدخول، وبعض نظرات التآسى من الجالسين على طاولتهم طاقة من النفور الصادرة من الجميع تحوم حولها حتى النادل حاول أن يثنيها عن الجلوس متحججا بأن جميع الطاولات محجوزة، لحُسن الحظ كانت نجوى تجلس كعادتِها فى مقهى إكسلسيور تحتسى فنجان قهوتِها الصباحى. ولأول مرة لا تخشى نهى الاقترابَ منها، حَيَّتَها بابتسامة صافية، بادَلَتها نجوى الابتسامة، اقتربت منها قائلة: «ممكن أشاركك فنجان قهوة؟» أجابتها نجوى أيضا بصوت مرحّبٍ دافئ رصين «أفيك بليزير.. بكل سرور».
رابط دائم: