رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

من كنوز التراث المجهولة..
«مختار الحكم ومحاسن الكلم».. أول كتاب فى العربية عن الأمثال

نبيل فرج

تشكل الأمثال والحكم فى التراث العربى ركنا أساسيا من أركانه. ومن أهم كتب هذه الأمثال والحكم التى نطالعها فى علم العلماء بمثل ما نجدها لدى عوام الناس كتاب «مختار الحكم ومحاسن الكلم» لأبى الوفاء المبشر بن فاتك الذى يعد من علماء مصر، وإن رجعت أصوله إلى دمشق التى كان يلجأ إليها كل من يتعرض فى وطنه للمصاعب والتضييق.

ويرد بعض الباحثين هذه الصلة بين مصر وسوريا إلى انفتاحها على العالم، وهو ما أدى فى العصور الحديثة إلى أن أصبحنا مثل أوروبا، مع ارتفاع مصر عن سوريا فى المستوى الفكرى.

............................

وعلى أهمية هذا الكتاب الذى ترجم إلى العديد من اللغات الأجنبية، فلم يطبع فى لغته الأصلية غير مرة واحدة سنة 1980، صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر اللبنانية، بتحقيق وتقديم وتعليق الدكتور عبدالرحمن بدوى الذى تدين له الثقافة العربية الحديثة بالعديد من الكتب المؤلفة والمترجمة عن الحضارة الأوروبية والعصور الوسطى والتراث العربى. كما تدين له بمنهجه وعلمه الغزير، الذى يؤلف أكثر من مائة وثلاثين كتابا، تأثر بها أكثر من جيل من الباحثين والمثقفين والقراء، استفادوا من انقطاعه للبحث العلمى، ومن عدم تهاونه فى إنتاجه.

ومع هذه القيمة الفريدة لهذا الكتاب الذى تؤكد صياغته العربية البعيدة عن تقعر العصور التالية، فلم ينل من الاهتمام ما يستحقه كتاب مثله.

> > >

لا يعرف بالضبط تاريخ ميلاد ووفاة المبشر بن فاتك وكل ما ورد ذكره عن هذا التاريخ أنه حول المائة الخامسة للهجرة، التى شاعت فيها الكتابات التى تتناول الحكام وسيرهم وأمجادهم.

غير أن الدكتور عبدالرحمن بدوى ينفى هذا القول، وذلك بالرجوع إلى المعاصرين من أساتذة وتلاميذ هذا المؤلف، ومنها حدد ميلاده فيما بين 400 و410 هجرية، والوفاة فى 480 أو قبلها بقليل.

> > >

و»مختار الحكم ومحاسن الكلم» هو الكتاب الوحيد الذى تبقى من مؤلفات المبشر بن فاتك، بعد أن أتلفت زوجته إثر وفاته كل هذه المؤلفات ومكتبته الخاصة بإغراقها فى برك الماء الراكد، انتقاما من عزوفه عنها فى حياته، وانكبابه على القراءة والكتابة.

وبعد هذا الإتلاف لم يبق من هذه المؤلفات فى العلوم والتاريخ والسير والسياسة والفلسفة والاجتماع غير هذا الكتاب الذى لم يدرس، وجمع فيه المبشر بن فاتك أقوال الفلاسفة والعلماء والأدباء وعامة الناس من العديد من الأجناس، بصورة تومئ إلى اطلاعه الواسع على التراث الإنسانى، وبخاصة الفلسفة اليونانية وآداب السيريانية والهندية والفارسية، إيمانا منه بأن على الباحثين أن يأخذوا من جميع الثقافات أجودها.

ولهذا اعتمد عليه الكثير من المؤلفين اللاحقين فى النقل عنه بعد سنوات طويلة من رحيله.

وأول ما يلفت نظر هذا المؤلف القديم أن اختلاف مذاهب المشهورين بالحكمة ومحاسن الكلم لا يحول دون انتخاب أقوالهم أيا كانت جنسياتهم ودياناتهم، مادامت هذه الأقوال صحيحة المقصد، لا تخالف الشرائع أو العقل، بصفتها خير الكنوز للعمل الصالح، ولإدراك الأدب، واستقامة السلوك.

ومبدأ المبشر بن فاتك الأخذ بالحكمة من حيث تأتى، ومن حيث تصاب، بغض النظر عن مصدرها، سواء كانت منتمية لمعتقدات الوثنية أو معتقدات التوحيد، وهو ما يدل على الانفتاح على ثقافات العالم، ذلك أن وجود العيوب فى الرأى لا يمنع من أخذ الجيد منها.

ولولا ما ورد فى كتابه لضاعت آثار وكنوز كثيرة لا تقدر بثمن أودت بها الكوارث والنكبات الطبيعية والحروب والنهب بأشكاله.

ومن أوائل الحكم الأخلاقية التى تواترت لدى الحكماء والعلماء من هذا الكم الذى يعبر عن قيم روحية سائدة، معرفة الله وحمده وتقديم القرابين له، ومعرفة الخير والشر، والسمع والطاعة للحاكم أو للملك المسئول عن أحوال العباد، الذين يقع عليه افتقاد رعيته قبل أن يتفقد أحواله الخاصة، لأنه بالنسبة للرعية الروح للبدن. وما لم يكن هذا المسئول قادرا على ضبط نفسه فلن يكون قادرا على ضبط رعيته، وتوطيد الرابطة بينه وبينهم بتدبير أمور البلاد. ولهذا وصف فى الأدبيات بأنه كالنهر الصافى، ينتفع به الأخيار والأشرار.

وعلينا أيضا ألا ننسى أن الحاكم فى هذه العصور القديمة التى كانت الخلافة فيها تورث كان يعامل فيها كإله، والتجرؤ عليه تجرؤ على الإرادة الإلهية.

وهناك أيضا من التعاليم بر الوالدين، وعمل المعروف، والزكاة، ومعونة الضعفاء وأهل الحاجة، والتخفيف عن المحزونين، والرفق بالجار، وإقالة عثرة الصديق والعدو، والتعصب للغرباء، لأنه لا فرق بينهم وبين أبناء الوطن. ويمكن أن نضيف إلى الغرباء الأقليات، ومقابلة الفظاظة باللين، وإكرام الكبار وأصحاب المراتب الرفيعة والفضل وطلاب العلم، والعدل فى الأحكام مع التريث فى إصدارها، والعصمة من الفجور وكل أشكال الفساد، والتزام القضاة بالشرع، وإن كان تعاطى الحق والإنصاف يغنى عن الحاجة إلى القضاة، مفضلين الصدق ولو أدى إلى الضرر على الكذب وإن كان نافعا، وعدم نطق كلمات الفحش عند الغضب أو السخط، ومن يبالغ فى الخصومة يعد آثما.

وليس هناك ما يغم العدو أكثر من التمسك بالفضيلة، وغفران إساءة من يسيء، خاصة إذا كانت الإساءة عن جهل بالحقيقة، وليس عن علم بها، وإعلاء شأن المشورة، ونبذ التفاخر أو التعاظم، لأن البشر خلقوا من طينة واحدة، ويملكون بالفطرة عقلا واحدا.

وكان هؤلاء القدماء فى مراحل البراءة وصفاء البصيرة المبكرة على وعى تام بأن الاستهانة بالأشياء الصغيرة ما تلبث أن تتفاقم وتغدو كبيرة، مثل الأسقام التى إن لم تعالج فى بدئها تتحول إلى أسقام لا برء منها، وأن الدنيا فى تغير دائم وإلى زوال، وأن من يطوف الأرض العريضة تنتهى به الحياة بأن يطوى فى مساحة ذراعين، ولا جمع بين حب الدنيا وحب الآخرة، فإما هذه أو تلك.

وكانوا يرون أيضا أن الرعية إذا قدرت على الإفصاح عن نفسها بالكلام كانت بالتالى قادرة على الفعل.

أما عن وصف صفات النساء فهن أسرع غضبا من الرجال، وهذه حقيقة أثبتها العلم الحديث بسبب الهرمونات الأنثوية التى تجعل المرأة سريعة الانفعال وعصبية.

واعترافا بمكانتها يذكرون من جهة أخرى أن أشهر الأطباء مثل جالينوس الذى صنف كتب التشريح درس الطب على يد امرأة. وحذر البعض من النساء إن كن قبيحات الفعال.

والحداثة فى عرفهم ليست كما نعتقد اليوم فضيلة لاقترانها بالتجديد، ذلك أنها خروج عن طريق الأسلاف وعلى ميراثهم، بدلا من الاعتبار بهم وترسم خطاهم.

ولكنهم فى عبارات أخرى رفضوا أن يقتصر الأبناء على آداب الآباء، بحكم أن الأبناء ينتمون إلى زمانهم، لا لأزمان الآباء. وعلى الأفعال أن تتناسب دائما مع زمانها.

ولم يحفلوا بالبلغاء واللغويين لأنهم ليسوا سوى معلمين للصبيان. أما الشعراء فنظروا إليهم فى بعض العصور كأصحاب أباطيل وكذبة لا يؤبه بهم.

وكثيرا ما كانوا يحذرون من الكلام بلا روية، ويعتبرون أن من يأذن بالشر غير حكيم، فيما من يسالم الناس يكون عزيز الجانب.

واستبعدوا من حسابهم الجرائم البشعة التى تتعارض مع الفطرة السليمة، مثل قتل الأبناء الآباء، وهى من الجرائم التى لم يكن فى طوق تصورهم حدوثها، مع أنها ترتكب فى زماننا كسائر الجرائم الأخرى البشعة التى تقطع الأرحام.

وترتيب القدماء للبشر، كما يرد فى هذا الكتاب، على النحو التالي: الكهنة، والملوك، والرعية.

أما الأنبياء فمن صفاتهم الاستجابة لدعواتهم ومطالبهم، مثل رفع الآفات، وإنزال المطر، وإعمار الأرض.

ويرى هؤلاء القدماء أيضا، كما نطالع فى كتاب المبشر بن فاتك، إنه من الواجب فى تعامل المرء أن يتطابق ظاهره مع باطنه، حتى لا ينعت بالرياء. كما أنه يجب إكرام الأخيار والأشرار على حد سواء، الأخيار من أجل خيرهم، والأشرار للكف عن شرهم، حفظا للعلاقات الإنسانية من التصدع.

> > >

هذه باقة من القيم الأخلاقية الرفيعة، التى لم تخرج عنها الكتب التى وضعت بعدها، وهى تؤكد أن الثقافة العربية كانت منذ بدايتها ثقافة إنسانية منفتحة على العالم تضع الدستور للسلوك والضمير.

ومن هنا يكون للمؤلف المجهول المبشر بن فاتك فضل هذه الريادة التى تغطى الكثير من المعتقدات والأخبار التى أضاءت المسيرة البشرية فى تاريخها الطويل، وحفظها من التشتت والضياع.

إلى جانب تعريفه بكثير من فلاسفة وعلماء وحكماء من مختلف الجنسيات، وصف هيئاتهم، وأشار إلى أساليبهم ومناهجهم فى الفكر، التى أعيد إنتاج الكثير منها وفق منظومة العقلية العربية المحدثة. وفوق هذا كله، فإن الكتاب فى جملته حافل بالآراء والملاحظات الدقيقة التى تعبر عن حس مرهف بالحياة والوجود فى كل قطاعاتها وأصقاعها، وبالمعرفة الجيدة بطباع البشر وتطلعاتهم.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق